عبيدلي العبيدلي
على الطريقئة العمانية الأصيلة المتمسكة بتقاليدها، الرافضة للمساومة على المزج الخلاق بين الكرم والحفاوة من جانب، والمهنية وقيم الحرفة الصحافية من جانب آخر، بادر رئيس تحرير صحيفة "الرؤية" العُمانية حاتم الطائي إلى الدعوة للقاء ضم مجموعة من كتاب صفحة "الرأي" في الجريدة. وإذا تجاوزنا الحالة الحميمية التي سادت أجواء اللقاء، والأجواء الاجتماعية التي شاعت في صفوف من شاركوا فيه، فسوف نحط رحالنا عند زوايا مهنية وثقافية، بل وحتى فكرية أشعلها، بشكل إيجابي، ذلك اللقاء، يمكن رصد الأبرز منها في النقاط التالية:
1. الجمع بين جيلين إن لم يكن ثلاثة أجيال إعلامية، مختلفة في خبراتها المهنية، متنوعة في خلفياتها الفكرية، متفاوتة في تجاربها السياسية. الأمر الذي حوّل اللقاء إلى ما يشبه العصف الذهني الذي أفرغ فيه كل جيل من تلك الأجيال الثلاثة ما يُريد أن ينقله لأفراد فريق الجيلين الآخرين. المفيد، والممتع في آن في ذلك الحوار هو تلك الصراحة التي سادت المداخلات، والحميمية في تفاعلها، رغم أنّها مست قضايا عربية معاصرة معقدة يُصعب الاحتفاظ بذلك السلوك الراقي عند معالجتها.
2. الخلفية التي تقوم عليها الدعوة والتي لخصها رئيس التحرير في كلمته الافتتاحية التي، بعد أن قدمت تلخيصًا مكثفًا للمشهد السياسي العربي، عادت كي تناشد الأقلام العربية المشاركة أن تجعل من هذا اللقاء منصة حوارية تتلاقح فيها الأفكار وتتناسل من خلالها الطروحات، دون أن يعني ذلك، وهو ما أصر عيه الطائي، ضياع بوصلة قيم الحوار وأصوله. وكانت استجابة المشاركين في غاية الإيجابية.
3. البعد السياسي الإيجابي الذي كرسه هذا اللقاء، الذي نجح في دعوة، ومن ثمّ حضور مجموعة من الأقلام القادمة من دول عربية مختلفة. وفي أحشاء مثل هذه الخطوة الكثير مما يمكن الاستفادة منه لمواجهة التفتت العربي، وخاصة في جوانبه الفكرية، والتشظي المرافق له على الصعيد الإعلامي. هنا ينبغي الانتقال برشاقة من النظرة الضيقة التي يسودها التشاؤم، المنطلق من غموض لحظي محدود، إلى فضاء الرؤية الاستراتيجية المستقبلية الرحب، اللامتناهي.
4. الآفاق التي يحملها في أحشائه مثل هذا اللقاء، الذي بدلاً من أن يتقزم فيصبح مجرد مناسبة اجتماعية، بوسعه أن يتعملق على نحو إيجابي كي يصبح منصة، تقليدية، وفي وقت لاحق إلكترونية تتلاقح في التجارب المتباينة، كي تتمخض في نهاية الأمر عن مولود ثقافي/إعلامي عربي يحمل في ثناياه سمات الماضي، ويتمتع بمقاييس الحاضر، ويرنو نحو تحولات المستقبل.
5. الحضور النسائي الملحوظ، ومن أجيال مختلفة أيضًا، يتقدمها الجيل النسائي الشاب. فقد تجاوزت نسبة الحاضرات 28.5 % من عدد الحاضرين، وهي نسبة عالية في بلد نامٍ مثل سلطنة عمان، وفي مؤسسة فتية مثل "الرؤية". وربما تعكس هذه النسبة حالة عمانية متميزة، حيث تحظى المرأة العمانية بنسبة قريبة من هذه النسبة في "مجلس الدولة"، وهي الحجرة التشريعية الثانية التي يتشكل منها "مجلس عمان".
تأسيساً على ذلك، وفي نطاق الحوارات التي جرت، في إطار المحاور التي تقدمها "دور المثقف العربي"، في قضايا كثيرة مثل التطرف، يمكن التقدم بالمقترحات التالية:
1. تكوين لجنة من داخل، وربما إذا احتاج الأمر يمكن الاستعانة بكفاءات من خارج، الجريدة. تكون مهمتها الرئيسية الإعداد لهذا اللقاء وتوفير عوامل النجاح التي يحتاجها، سواء على مستوى التمويل، أو الإدارة، أو المشاركة.
2. تحول اللقاء من مجرد لقاء يقتصر على الأقلام المشاركة في صفحة الرأي في صحيفة "الرؤية"، إلى آخر أكثر اتساعًا وشمولية، يدعو كتابًا آخرين، ربما يقتصر الأمر على كتاب من سلطنة عمان، ثم يتسع بشكل تدريجي كي يسمح بمشاركة أقلام إعلامية عربية، بل وحتى دولية، دون أن يعني ذلك تذويب نواة ذلك اللقاء التي ينبغي أن تكون محصورا، دون أن يؤدي ذلك إلى تقوقعها في كتاب الرؤية وأقلامها فحسب. مثل ذلك التوازن بين من هو داخل دائرة "الرؤية" وخارجها، يحتاج إلى مهارة مهنية عالية لا تفتقدها "الرؤية".
3. إعداد مسبق لمثل هذا اللقاء يغطي القضايا الأخرى من لوجستية وإدارية تضمن نجاح اللقاء، بناءً على مقاييس مهنية دولية، توفر له التفوق الإعلامي المطلوب، والنجاح المهني المتوخى. وفوق هذا وذاك، لا بد من أن تتوفر له البيئة الحاضنة التي تؤمن استمراره من ناحية، وتطوره من ناحية ثانية.
تلك لم تكن أكثر من خواطر ملحة لم يكن في الوسع كتمانها، لكنها في حقيقة الأمر تنطلق من رغبة جامحة، ربما سرت في ذهن كل من شارك في ذلك اللقاء، في أن نرى "الرؤية"، ليست مجرد صحيفة عمانية ناجحة، كما هو عليه الحال اليوم، وإنما منصة ثقافية، إعلامية، عربية، قادرة على صهر الكفاءات الإعلامية العربية في البوتقة العمانية، كي ينتج عنها مؤسسة إعلامية عربية، تساهم في وقف حالة التشظي العربية التي نُعاني منها، وتشارك في التصدي لكل مشروعات التقسيم التي من الجريمة الخضوع لقوانينها.
قد يبدو تحقيق مثل هذه الدعوة مهمة شبه مستحيلة، لكنها ليست متعذرة على "الرؤية" التي ربما كان مجرد التفكير في إصدارها مهمة تعجيزية، نجحت في تجاوزها. وأثبتت عبر سنواتها الماضية أنها مؤهلة لخوض الصعاب، بدلاً من الركون لها، والخضوع لإحباطاتها.