إدارة الأزمات

حاتم الطائي

تعدُّ الأزماتُ -في الغالب الأعمِّ- جزءاً طبيعيًّا من حياة الدُّول والمؤسَّسات والأفراد؛ بسبب تغيُّر مُعطيات الواقع بشكل مُستمر، ونتيجة تراكم المشكلات التي تتضخَّم لتُصبح بمثابة أزمة، تحتاج في التعامل معها إلى حِنْكَة ودَرَبة، وما يُسمى بـ"فن إدارة الأزمات".

... وإذا لا يُمكننا القول بمنع حُدوث الأزمة -خاصة تلك التي تتشكَّل أطرها بعيداً عن عوامل تحكُّمنا فيها- فإننا نستطيعُ إدارتها بما يُقلل تأثيراتها السلبية علينا -على كافة المستويات: الفردية، والمجتمعية- بل ونستطيع كذلك -إذا أجَدْنا فنونَ إدارة الأزمات- تحويل هذه المشكلات المتراكمة إلى فُرصة ننطلقُ منها إلى المستقبل، ونحن أكثر ثقة وقوَّة على مُواجهة التحدِّيات وقهر الصِّعاب.

هذا فيما يتعلَّق بالأزمات "حتمية الوقوع" كالكوارث الطبيعية. أما النوع الآخر من الأزمات؛ فهي تلك التي يُمكن تفاديها بالتعامل معها في أطوار سابقة لاستفحالها؛ لمعالجتها في مَهْدها قبل أن تتجاوزَ طَوْر المشكلة وصولاً إلى مرحلة الأزمة. ومن هُنا، تبرُز أهميَّة مُواجهة المشكلات أولاً بأول؛ لأنَّ الحلول في بدايتها أسهل بكثير من حلِّها عندما تتعقَّد وتصل إلى أزمة.

وهُنا؛ يجبُ عَدم الخلط بين المشكلة والأزمة؛ فالمشكلة تمثِّل صُعُوبات معيَّنة تعُوق تحقيق الأهداف؛ حيث إنَّ ضَعْف الإمكانيات المادية والبشرية اللازمة لحل المشكلات قد يقود إلى تراكُمها، وتحوُّلها مع الوقت إلى أزمة.

وبهذا المعنى؛ فإنَّ الأزمة تعدُّ مهدِّداً لكيان الدولة والمؤسسة والفرد؛ لتأثيرها المباشر على مقوِّمات الوجود لهذه المنظومة، وهي إيذانٌ بخروج الأمور عن السيطرة.

وهُناك أنواعٌ عديدة من الأزمات؛ منها: الاقتصادي، والنفسي، والسياسي، والصناعي، والمالي.. ويذهب بعضُ الاقتصاديين إلى رَبْط الأزمات بالمجتمع الرأسمالي.

ونظرةٌ على تاريخ الشعوب مع الأزمات؛ تُثبت صحَّة هذا الارتباط؛ حيث إنَّ العديدَ من الأزمات -خاصة ذات العلاقة بالاقتصاد- نجد أنَّ منشأها الغرب الرأسمالي، أو على الأقل متسبِّب فيها جرَّاء سياسات السوق الحرة؛ حيثُ تلجأ بعض الدول إلى تصدير أزماتها إلى دول أخرى.

ويُمكننا أنْ نتعلَّم الكثيرَ من العِبَر بدراسة تاريخ الأزمات الاقتصادية التي تمرُّ على الدول، خاصة وأنَّنا نعايشُ حالياً أزمة التَّراجع الحاد في أسعار النفط؛ وهي أزمة مُتشعبة، تُلقي بظلالها على جميع القطاعات، وبآثار سلبية عديدة، خاصة في ظلِّ التكهنات بأن أمَدَها سيطول إلى نحو عامين (وفقا لتوقعات أكثر المحللين تفاؤلا).

وتُعيدُ أزمة أسعار النفط الحالية إلى الأذهان، أزمات وتجارب مرَّت بها العديد من الدول والأمم، وجميعُها يُشكل دروسًا ينبغي استحضارَ عِبَرها للاستفادة منها.

ومن هذه الأزمات التاريخية: ما يُعرف بـ"المرض الهولندي" في الاقتصاد، والذي ضَرَب بلاد الأراضي المنخفضة، خلال النصف الأول من القرن العشرين "1900-1950"، وتزامَنَ مع اكتشاف النفط في بحر الشمال؛ الأمر الذي أصابَ الهُولنديين بالتَّرف والثَّراء والرَّاحة، وتراجُع الصناعة والاقتصاد الحقيقي. وبعد نُضُوب آبار النفط، استيقظَ الهُولنديون على حقيقة ثرائهم غير المستدام، والذي انتهى فجأة!

فـ"المرضُ الهولنديُّ" يعني في الاقتصاد: العلاقة الظاهرة بين ازدهار التنمية الاقتصادية بسبب الموارد الطبيعية، وتراجع قطاعات الصناعات التحويلية والزراعية. فهو يُدر أموالا طائلة، لكنَّه يعمل على تعطيل قُوى العمل ومواهب الإبداع والإنتاج، ويشوِّه الثقافة والمجتمع.

وقد استطاعتْ هُولندا تجاوزَ المرض والتعافي من أعراضه ببناء اقتصاد يقوم على مَوْرد مُستدام؛ وهو: الزراعة، وما يقوم عليها من صناعات مُتنوِّعة؛ ممَّا بوَّأها مكانةً مُتقدمة في سجل الدول المصدِّرة للمنتجات الصناعية ذات المنشأ الزراعي، ولم تصل إلى هذه المكانة من فراغ، بل عَبْر خططٍ مدروسةٍ ارتكزتْ على إيجاد مسارات بديلة ومتعدِّدة.

وعلى مدى التاريخ، يُمكن تتبُّع آفة "المرض الهولندي"، ورَصْد آثارها على العديد من الدول التي حصلتْ على ثروات طبيعية من: المعادن النفيسة، أو النفط والغاز، أو على شكل محاصيل زراعية ذات قيمة تجارية عالية.

وهُنا؛ يبرُز مثالٌ آخر تجسِّده "العُقدة الأرجنتينية"، حيث كانتْ الأرجنتين من البلاد الثرية جدًّا بالاعتماد على صادراتها الزراعية، وفجأة تغيَّرت الظروف السياسية، ومرَّت البلاد بحالة من عَدَم الاستقرار؛ نتج عنها تراجعُ الصادرات؛ لدرجة شارفتْ فيها الأرجنتين على حافة الإفلاس؛ لتقع فريسة في فخِّ الديون التي كبَّلت اقتصادها لعقود طويلة، ولزمها الكثير من العمل والوقت لتحل عقدتها.

... إنَّ انخفاضَ أسعارِ النفط الحالية هو أزمة حقيقيَّة، وينبغي التعامل معها وفق فَهْم واعٍ وواقعيٍّ لطبيعتها وامتداداتها، وهذا يتطلَّب تجاوزَ فهم "أزمة وتعدي" في التعامل معها، وانتهاج أسلوبٍ علميٍّ في البحث عن بدائل حقيقية تحوِّل هذه الأزمة إلى فُرصة لانعتاق اقتصادنا من هيمنة المنتج الواحد.

وأيًّا ما تكون أسباب تراجع النفط -سواءً كانت نُذر العَوْدة للحرب الباردة من بوابة النفط، أو لظهور النفط الصخري...وغير ذلك من أسباب تؤكد أننا لا نتحكم في أسعار النفط- ولتفادي "المرض الهولندي" و"العُقدة الأرجنتينية"، وَجَب عليْنَا العملُ على إدارة هذه الأزمة بحذاقة؛ حتى نصل باقتصادنا إلى برِّ الأمان.

ومن المعروف في علوم إدارة الأزمات: أنَّ هناك طرقا تقليدية في التعامل معها، تقوم في الأساس على إنكار الأزمة، وكبتها، وعدم الاعتراف بها، والتسليم بالأمر الواقع بطريقة قدريَّة، وهذا ينجمُ عنه تعميق الأزمة وما يستتبعُ ذلك من انهيار ودمار وخراب.

أمَّا الطرق غير التقليدية، فهي المعمول بها في المجتمعات الحديثة والقوية، والتي تُوْلي المنهج العلمي أهمية في التخطيط ومعالجة الأمور بعقلانية عبر تحديد بُؤر الأزمة، والعمل على سدِّها، واستنباط مسارات جديدة تكفُل تحويل السالب إلى مُوجب. وهذه قطعًا ليست بالعملية السهلة؛ كونها تتطلَّب دراسات وبحوثًا لترسيخ خارطة التنويع الاقتصادي، ورفع الكفاءة الإنتاجية للقطاعات المختلفة، وإعادة ترتيب الأولويات.. ويتطلب ذلك التوظيف الأمثل للموارد البشرية والطبيعية.

وأعتقدُ أنَّ هذا هو المَخْرج الصَّحيح من نفق الأزمة، بل والتأسيس لقاعدة اقتصادية راسخة لا تُؤثر فيها رياح المتغيِّرات الخارجية، ومحصَّنة ضد "المرض الهولندي" و"العقدة الأرجنتينية".

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة