حلول غير تقليديَّة

حاتم الطائي

 

 

 

 

لم يدُر بخلدنا قبل شهر من الآن، ولم نكُن نتخيَّل أنْ يعصفَ انخفاضُ أسعار النفط بما يقارب الـ40% من دَخْلنا.. حتى إنَّ أكثر المتشائمين لم يكًن يتوقَّع هذه الوتيرة المتسارعة من التراجع، والتي يبدو أنَّها لن تعرف حدًّا خلال المدى المنظور.. ولسْنَا بصَدَد تشريح الواقع، ولكن نتطلع إلى استشرافِ حلولٍ غير تقليديَّة تمكِّننا من عُبور نفق الأزمة المترتبة على الانهيار السعري للذهب الأسود.

 

إنَّ مَنْشأ الأزمة والذي يرى البعض أنَّه قد بدأ مع إغراق أمريكا الأسواق العالمية بالنفط الصخري مما تسبَّب في تُخَمة المعروض؛ وبالتالي تراجع الأسعار.. ولم يكن أحدٌ في الزاوية الشرقية من العالم -التي نعيش فيها- يلقي بالاً لاحتفاء الصحافة الأمريكية في الماضي بدخول أمريكا نادي الدول المصدِّرة للنفط، بعد أن فاضتْ حُقول النفط الصخري في تكساس بإنتاجها الوفير.

 

أغفلنا أو تغافلنا التأثيرات المحتملة لهذا المستَجد الخطير، كما تكاسلنا من قبل عن إعمال مبدأ التفعيل الحقيقي للتنويع الاقتصادي؛ لنجد أنفسنا في خِضَمِّ أزمة تتطلَّب مهارات عالية لإدارتها، وتحويلها إلى فرصة، أو على الأقل الخروج منها بأقل الخسائر.

 

ورغم أنَّ السلطنة ليست وحدها في ذلك، إلا أنَّنا ينبغي أن نبتكر حلولنا الإبداعية النابعة من طبيعة احتياجاتنا وثراء مواردنا.. فقد تكون هناك دول خليجية قادرة على امتصاص الصَّدمة بشكل أفضل؛ لوجود فوائض مالية مُتراكمة لديها، إلا أنَّ الوضع لدينا في عُمان يختلف لأسباب ظاهرة للعيان؛ منها: محدودية إنتاجنا النفطي -والذي يقل عن المليون برميل- كما أنَّ مخزوناتنا النفطية ليستْ في ضخامة دول الجوار، إضافة إلى أنَّ تكلفة الإنتاج عالية نسبياً مُقارنة بدول الخليج الأخرى؛ حيث تصل إلى 27 دولارا، فيما لا تتجاوز في بعض الدول المجاورة الخمسة دولارات!

 

ومن هُنا.. علينا أن نبحثَ عن حلول غير تقليدية لمعالجة هذه الأزمة الناجمة عن الانخفاض الحاد في أسعار النفط.. حلولٌ تستلزم تضافر جهود الجميع، وتستدعي الرُّوح الوطنية لتشكل تلاحمًا وطنيًّا مطلوبًا بين الحكومة والمواطن والقطاع الخاص والمجتمع المدني، ويجسِّد مجلس الشورى مكانَ القلب في هذه اللوحة الوطنية؛ باعتباره الجسرَ بين الحكومة والشعب.

 

ولابد أنْ نضع مَصْلحة الوطن أولاً بعيدا عن الأنانية والتفكير الفئوي؛ لأنَّ الوضع صعب، ويتطلب مُعالجات تحتاج في جانب منها إلى تضحيات وتكيُّف مع واقع جديد له شروطه وظروفه الخاصة.

 

كما أنَّه علينا التيقُّن بأنه لا توجد حلول سهلة وسريعة وسحرية يُمكن تطبيقها بين ليلة وضحاها لتجاوز الأزمة الناجمة عن تراجع أسعار النفط، بل يجب التفكير في استحضار ما يُلائمنا من أفكار اقتصادية لنخرُج من هذه الأزمة بنموذج جديد للتنمية خاص بنا نحن العُمانيين، ويجسِّد تجربتنا الفريدة، ويمثل ضمانة للاستدامة.

 

والنماذج ليستْ على قارعة الطريق نلتقط منها ما نشاء، بل كلها تتطلب الدراسة والتمحيص والتدقيق؛ حتى تكون خياراتنا قابلة للتطبيق الأمثل الذي يكفُل لنا تجاوز الأزمة ونحن أكثر قوَّة من ذي قبل.

 

وكثيرةٌ هي النظريات في هذا الصدد، ولكن أتوقف مع القارئ الكريم هُنا مُقترحاً تبنِّي واحدة من هذه النظريات، والتي تعرف بـ"إستراتيجية قيادة الكلفة المنخفضة" (COST LEADERSHIP)، للاقتصادي الأمريكي مايكل بورتر، التي ظهرتْ في ثمانينيات القرن الماضي، وتتمحور حول تقليل التكلفة؛ عن طريق: تطوير الخدمة، مع مراعاة خفض عناصر التكلفة لتكون أكثر تنافسية. والنظرية تمثِّل استجابة واعية لمواكبة تطورات ومستجدات البيئة التنافسية، وهي تعتمد في ذلك على ثلاث إستراتيجيات؛ هي: قيادة التكلفة، والتميز، والتركيز.

 

ولنضرب مثالاً على ذلك: فإذا كانت تكلفة خدمة بـ10 ريالات تبحث نظرية قيادة الكلفة في إمكانية خَفْض سعر تقديم الخدمة إلى 7 ريالات مع تطوير جودتها.. وقد يتساءل البعضُ: كيف يتم ذلك؟ في الواقع الإجابة ليست سهلة، ولكن لابد من دراستها لمعرفة أفضل الوسائل لتحقيقها، ولابد من دراسة القطاعات التي تستطيع أن تمنحنا القدرة التنافسية في ظل ظروف انخفاض أسعار النفط، بل وتخلق فرصا جديدة تكفل تحويل الأزمة إلى فرصة، إضافة إلى إيجاد قيمة مضافة وتنويع مصادر الدخل.

 

وهذا هو طريق التفكير الإيجابي الذي يدفعنا إلى الأمام، بدلا من أن نقبع في أماكننا في انتظار رحمة ارتفاع أسعار الخام مرَّة أخرى.. إننا مُطالبون بالتكيف بشكل أفضل مع الأوضاع المستجدة لنتجاوز الأزمة ونحن أفضل حالاً.

 

وفي ذات القراءة الصحيحة لنظرية قيادة الكلفة، علينا أنْ ننظر إلى الاقتصاد الكلي، ونبحث عن منافذ التسريبات المالية، والعمل على إحكام إغلاقها بإيجاد مُعالجات ناجعة لها، وتحويل التسريبات المالية الكبيرة صَوْب الخارج، إلى فرص استثمارية داخل الاقتصاد الوطني.

 

وهاكم الأمثلة: تحويلات القوى العاملة الوافدة، والعلاج في الخارج، يُمكن استثمارها في الداخل... كيف؟

 

نستطيع إقناع من يعملون لدينا من الضيوف الوافدين باستثمار أموالهم في شرايين الاقتصاد الوطني، وكذلك الحال بالنسبة لنفقات علاج المواطنين في الخارج، لنحضر إليهم المستشفى إلى هنا، بدلا من أن يُسافروا إليه هناك؛ حيث يمكن أن تفكر الحكومة في الشراكة مع أحد المستشفيات العالمية المرموقة لتقديم خدمة بجودة عالية داخل السلطنة؛ لنخفف من عبء فاتورة السفر إلى الخارج طلبا للعلاج.

 

ليس هذا فحسب، بل من الممكن أن نحوِّل بوصلة السياحة العلاجية الخليجية إلى عُمان.. وقطعا هذا ليس بمستحيل.

 

وكذلك الحال بالنسبة للسلع الإستراتيجية التي نستوردها بملايين الريالات من الخارج؛ حيث نستطيع أن ننمِّيها محليًّا، ونوفر لها الدعم اللازم حتى تنمو ويشتد عودها، مع الأخذ في الاعتبار اتفاقية التجارة الحرة، وهذا الأمر يرتبط بإعادة توجيه استثماراتنا الخارجية إلى الداخل لخدمة الاقتصاد الوطني بصورة أفضل.

 

وكما أنَّنا التزمنا بتوظيف العديد من أبنائنا في داخل القطاع الحكومي خلال الأعوام الأخيرة، فلابد من تحويلهم -وعبر برامج مدروسة- من عبء على الإدارات إلى فرصة جديدة ضمن إستراتيجية قيادة التكلفة المنخفضة.. وقد يتطلَّب الاستثمار الأمثل لطاقاتهم إعادة تأهيلهم وتوزيعهم لضمان الاستفادة القصوى منهم، مع التوجُّه نحو مزيد من التفعيل لمفهوم الحكومة الإلكترونية، والذي يحتاج الخروج به من الاستعراضية إلى التطبيق الواقعي والفعال في تقديم جودة أفضل في الأداء وبتكلفة أقل.

 

ومن التجارب الرائدة التي يُمكن تعميمها على السلع الأخرى: تجربة الشراء الموحَّد للأدوية، والتي وفَّرت علينا مئات الملايين من الريالات، فلِمَ لا نبحث عن تطبيقها في مجالات وقطاعات أخرى لأنَّ الشراء بالجملة يُمكن أن يُوفر الكثيرَ من المال ومعالجة جزء من التسريبات المالية.

 

ومن منافذ التسريبات التي تحتاج معالجة فورية: الفساد المالي والإداري؛ فهو بالإضافة إلى استنزاف الموارد وإهدار المال العام، يُحبط المعنويات، ويتسبَّب في نشر ثقافة الأنانية وإعلاء المصلحة الذاتية على حساب الصالح العام.

 

... المعالجات الواردة أعلاه، لا تنفي إمكانية الترادف مع الوسائل التقليدية في مُعالجة مثل هذه الأزمات؛ ومن ذلك: الاقتراض الداخلي والخارجي، والضرائب، والجمارك، ورفع الدعم...وغيرها من إجراءات ترفد الخزانة العامة "المرهقة بعبء الإنفاق المتزايد" بمصادر للدخل، على أن يتم انتقاء أكثر هذه الوسائل مواءمة لنظرية "قيادة الكلفة".

 

وحتى تنجح هذه الحلول المقترحة لتجاوز الأزمة، يلزمها تضافر الجهود، واستنهاض الحس الوطني. ومن هُنا، تأتي مسؤولية النُّخب المتعلمة في المجتمع؛ للتوعية بمتطلبات المرحلة من تجرُّد ونكران ذات في سبيل ميلاد المرحلة الجديدة لمسارنا النهضوي، والتي تقوم على الإحساس العالي بالمسؤولية لدى كل مواطن، والعمل برُوح الفريق الواحد من أجل تقدُّم عُمان لتتجاوز الأزمة وتصل إلى بر الأمان.

 

تعليق عبر الفيس بوك