يكتسبُ تقرير التنافسية العالمية -الذي يُعده المنتدى الاقتصادي العالمي بشكل سنوي، وصدرتْ النسخة الـ35 منه الأسبوع الفائت- أهميَّة استثنائية، ومصداقية نابعة من كونه يستند إلى أكثر من مُؤشر لقياس مستوى تنافسية الدول، إضافة إلى اعتماده -بشكل أساسي- على استطلاعات رأي، وبيانات، وإحصائيات موثوقة، وإعطاء الدول صورة تقريبية عمَّا أنجزته خلال عام، مقارنة بالعام السابق، مع إمكانية المقارنة مع دول أخرى.
وقد جاءتْ نسخة 2014-2015 من التقرير حاملة بين طياتها تراجعَ السلطنة 13 مركزا في الترتيب العام؛ حيث جاءتْ في المركز الـ46، بعدما كانت تحتل المركز الـ33 في العام 2013، وهو أمرٌ يستدعي أن نتوقَّف أمامه للمراجعة والتقييم لخططنا وبرامجنا الوطنية في مُختلف القطاعات، والوقوف على مدى ملاءمتها للواقع العالمي وكفاءتها في دفع قاطرة الاقتصاد نحو الأمام بخُطى ثابتة، وكفاءة عالية.. فالتطوير والإصلاح عمليتان مستمرتان، لم تتوقفا، بل تتطلبان المزيد من شحذ الهمم والطاقات، والعمل بروح الفريق الواحد؛ في ظلِّ تنافس الأمم المحموم نحو التفوق والتقدم والإنجاز.
وبنظرة سريعة على المؤشرات التي يقيس من خلالها التقرير تنافسية الدول، نجده يُركز على البيئة المؤسسية المتمثلة بالإطار القانوني والإداري، الذي تتفاعل من خلاله المؤسسات والحكومات لتوليد الثروة، إضافة إلى البنية الأساسية التي يُمكن أن تساعد على ربط الأسواق بتكلفة اقتصادية منخفضة، وتوفير البضائع بانسيابية عالية، مع النظر في بيئة الاقتصاد الوطني؛ حيث لا يُمكن تحقيق تنمية اقتصادية مُستدامة ما لم تكن هناك بيئة اقتصادية وطنية مستقرة، ثم يأتي التعليم والرعاية الصحية؛ حيث يصعب على القوى العاملة غير المتعلمة -أو التي لا تتمتع بالرعاية الصحية- أداء الوظائف التي تتطلَّب قدرا من المهارة التقنية.
ويتحرَّى التقرير مؤشرات التدريب والتعليم العالي، الذي يضطلع بدور أساسي في إعداد القوى العاملة القادرة على زيادة معدلات الإنتاج والإنتاجية، والتأقلم مع مُتغيرات الأسواق ومتطلباتها. ويُراعي في هذا الصدد كفاءة الأسواق المتمثلة في قدرة المؤسسات على تلبية احتياجات الأسواق بكفاءة عالية، وأسعار تنافسية، مع كفاءة أداء القوى العاملة، وسهولة انتقالها من قطاع اقتصادي إلى آخر، حسب مُتطلبات سوق العمل وكفاءة سوق المال؛ حيث يتطلَّب الاقتصاد الحديث أسواقًا مالية متطوِّرة قادرة على تلبية احتياجات المؤسسات الاقتصادية من قروض ائتمانية، وحماية أموال المستثمرين في الوقت نفسه، وتقديم التسهيلات التي تحتاجها المؤسسات المختلفة.
ويَدْعم ما سبق: الجاهزية في مجال التقنية، التي تؤدي دورًا مهمًّا في تعزيز قدرات المؤسسات الإنتاجية بتصنيع منتجاتها بصورة أفضل، وبتكلفة مُنخفضة، وتسهيل تسويقها محليًّا ودوليًّا، مع مراعاة حَجْم السوق الذي لم يعُد -في عصر العولمة- عائقا أمام المؤسسات لتصريف منتجاتها، كما كانت عليه الحال في الحقب السابقة؛ حيث باتت الأسواق الآن مفتوحة على مصراعيها أمام بضائع الدول المختلفة.
ولا يغفل التقرير تطوُّر منظومة العمل المتمثلة بترابط المؤسسات الإنتاجية ومنافذ توزيع المنتجات ببعضها، وتوافر وسائل الاتصالات وطرق المواصلات الحديثة، وكذلك عنصر الاختراعات العلمية والإبداعات والابتكارات والبحوث العلمية التطبيقية، التي تلعب دورا كبيرا في التطور الاقتصادي في البلدان المختلفة، لاسيما في الصناعات التي تستند إلى التقنية المتطورة ذات القيمة العالية المضافة.
وبنظرة تأمُّل، نجد أنَّ بلادنا بالفعل تسعى جاهدة من أجل تحسين بيئة العمل في هذه المؤشرات، لكن هل يتم هذا بالشكل المأمول، وفي التوقيت المناسب، وبالآليات الفاعلة التي تضمن الاستمرارية والتقدم، أم لا؟ وهنا يكمن السؤال الحيوي.
وبالرجوع إلى التقرير، نجد أنَّه على الرغم من ارتفاع درجة استقرار الاقتصادي الكلي لبلادنا -حيث تحتل المركز السادس عالميا- إلا أنَّها على الجانب الآخر تواجه ضعفا في كفاءة التعليم العالي والتدريب وكفاءة نظم التعليم الأساسي والنظام الصحي، فضلا عن ضعف الاستعداد التكنولوجي وانخفاض القدرة الابتكارية للاقتصاد؛ وهو الأمر الذي يتطلَّب -وبشكل منهجي- إصلاح هيكل المؤسسات ورفع كفاءة قطاعات التعليم والصحة وتعزيز الاستثمارات في البُنى الأساسية، وإصلاح سوق العمل والسلع، ورفع درجة الاستعداد التكنولوجي، والقدرة الابتكارية لاقتصادنا.
وبشيء من التفصيل، نقول: إنَّ التفوق في هذا المؤشر ليس بيد مؤسسة واحدة، بل هو نتيجة عمل كثير من المؤسسات التي قد لا ترتبط ببعضها بعضًا بشكل مباشر، لكن "الناتج الجمعي" يُؤكد وجود علاقة "عضوية" بين أداء كافة القطاعات، ونمو وتنافسية الاقتصاد الوطني؛ لذلك يجب النظر إلى أن "التنافسية" ليست مجرد تقرير عن قدرة الاقتصاد العُماني على جذب الاستثمارات العالمية، بل على مقدار التطور في مستوى الحياة والمعيشة بشكل عام؛ وذلك هو الذي يجعل الاهتمام به وتباحث نتائجه شيئا حيويا.
ولابد لنا -إن شئنا تعديل موقعنا في ترتيب التنافسية- تحديد القطاعات التي يجب العمل على تجويدها، والتميُّز فيها، عَبْر خطط وآليات يساهم في تنفيذها ذوو العلاقة من كبار وصغار الموظفين، الذين يجب تعريفهم بأهمية ما يقومون به حتى لو كانت مسؤولياتهم صغيرة أو متواضعة؛ ففي النهاية الكل يُمثل "ترسا" في ماكينة الإبداع والتميز، لا يمكن الاستغناء عنه أو بلوغ الغايات دون مشاركته بفاعلية.
ولو أخذنا -على سبيل المثال- قطاع الكهرباء أو الاتصالات، نجد أننا بحاجة إلى تسريع وتيرة توصيل الخدمات للمستهلكين، ولابد من تجاوز الفاصل الزمني بين تلقي طلب توصيل الخدمة وتشغيلها فعليًّا، ولو بشكل تدريجي؛ حتى نصل إلى المعدلات المتعارف عليها عالميا. ومن هُنا، تأتي أهمية إرساء معايير التقييم لدى جميع الموظفين، وأن يستوعبوا أهميتها في تقديم أجود وأسرع الخدمات.
وفي قطاع الإنترنت، نجد أنَّنا نعاني ضعفا في الخدمة بالعديد من مناطق السلطنة؛ الأمر الذي يعوق تهيئة المناخ لاقتصاد المعرفة. وعلى الرَّغم من إنشاء شركة للنطاق العريض قبل 3 سنوات، إلا أننا نادرا ما نعلم إلى أين وصل المشروع وما هي خطط عمله، ومتى نلمس نتائجه على الواقع الاقتصادي! ولا تزال شبكة الاتصالات تعاني من البطء وضعف التوصيل على الرغم من زيادة الطلب وتزايد أرباح شركات الاتصالات، وهو ما كان يجب ترجمته في صورة خطط وبرامج لتقديم الخدمة الأمثل للمواطنين.
... إنَّ تطوير شبكة الاتصالات من أهم عوامل تطوير الاقتصاد، وأحد أبرز عوامل نجاح الحكومة الإلكترونية التي توفر على ميزانية الدولة ملايين الريالات، بل يجب النظر إلى هذا القطاع الحيوي كقطاع واعد يُمكن استثماره ضمن خطة تنويع مصادر الدخل الوطني.
وفي قطاع التعليم -أساس النهضة وعمادها- نعترف بأن لدينا ضعفا في المناهج والإدارة المدرسية وتوظيف التكنولوجيا؛ الأمر الذي يتطلب مزيدا من الشراكة بين أولياء الأمور والمؤسسات التعليمية؛ لدعم أبنائهم وتوجيههم نحو مزيد من التحصيل الدراسي، فليس منطقيا أن نلقي بكل اللوم على المدرسة والمعلم. إضافة إلى إفساح المجال لمزيد من التعليم المنزلي، تحت إشراف أولياء الأمور، واستخدام التكنولوجيا والنوافذ الإلكترونية -مثل "يوتيوب"...وغيره- في تقوية مستوى أبنائنا، وتزويدهم بمعارف وعلوم عبر أسلوب تربوي مبتكر.
وهنا؛ نشير إلى أنَّ عدد البعثات الخارجية من أجل التعليم في تزايد مستمر، لكن لابد من المزيد من البعثات النوعية، واختيار أفضل الجامعات لأبنائنا؛ فالهدف ليس مجرد الحصول على مؤهل دراسي وحسب.. ولابد لجامعاتنا الحكومية والخاصة والكليات والمعاهد العليا، أنْ تسعى في اتجاه تحقيق الجودة وحجز مكان لها ضمن تصنيف كبريات الجامعات العالمية عبر تطوير المناهج، وتحديث أدوات التدريس والتدريب، وبرامج التبادل الطلابي مع الجامعات المرموقة في مختلف أنحاء العالم؛ ليتعرَّف أبناؤنا على الجديد في تخصصاتهم، ولابد من ربط الدعم والتحفيز لهذا القطاع بما يُحققه من نقاط قوَّة، وعوامل الجودة: تدريسيًّا، وفنيًّا، وإداريًّا.
... إنَّ تطوير قدراتنا التنافسية مسؤوليتنا جميعا -حكومة ومواطنين وقطاعًا خاصًّا- كل في مجاله الحيوي؛ فالحكومة ترسم الخطط وتضع الإستراتيجيات، ونحن كمواطنين نسعى لترسيخ ثقافة العمل، وإتقانه، والاهتمام بالجودة في كل مناحي الحياة، مع ضرورة بث روح الفريق الواحد في المجتمع، وليكن شعارنا "النبض الواحد".. وتلك الروح الإيجابية تدفعنا لتحقيق الكثير من الإيجابيات لمجتمعنا في مسيرة التفوق والتقدُّم والإنجاز.