الشراكة في التعليم

بألوان زاهية، وهمم عالية يحدوها الأمل في صنع مستقبلها، ينطلق هذا الصباح أكثر من نصف مليون من أبنائنا عائدين إلى مقاعد الدراسة، بعد إجازة صيفية، اعتبرها الكثير من أبنائنا مجرد "استراحة محارب" يعودون بعدها إلى تكملة المشوار؛ نحو غد يأملون أن يشهد تحقيقًا لأمنياتهم وأحلامهم التي تراودهم منذ الصغر، فهذا يرى نفسه طبيبًا، وذاك مهندسًا، وثالث ينتظر اللحظة التي يؤسس فيها لمشروعه، ويصبح رائدًا من رواد الأعمال.

هذه الوجوه الباسمة المستبشرة، تنتظر منا - نحن جيل الآباء- أن نكون على قدر المسؤوليّة، في العناية والتخطيط والمتابعة والاهتمام، والاستفادة من الخبرات الفاعلة والتجارب الناجحة للارتقاء بالمستويات التحصيلية للطلاب، حتى لا يتحول التعليم إلى عملية "روتينية" أبعد ما تكون عن الإبداع والابتكار والاستمتاع أيضًا بالجديد من المعارف والعلوم، فنجاح العملية التعليميّة يعتمد على أن نجعل أبناءنا يستمتعون بوقتهم في المدرسة، وهذا ما نجحت فيه العديد من الدول؛ وبالتالي يقبل الطالب على المدرسة بفرح وأريحية كبيرة.

ولا يمكن لذلك أن يصبح واقعًا ملموسًا دون أن يقوم كل منّا وبحسب موقعه واختصاصه بالدور المنوط به، فالمدرسة تضطلع بعملية التعليم والتعلم وتشكيل الوعي الثقافي والحضاري والبناء الفكري للطلاب وفق عملية يمكن أن نطلق عليها "الانضباط المدرسي" لما له من أهمية كبيرة في العملية التربوية، فهو أساس نجاحها، وتحقيق أهدافها، ولا يقتصر دور الانضباط على إسهامها في الرفع من مستوى الطالب؛ بل يتعدى ذلك إلى تحقيقه أحد الأهداف التربوية السامية ومن ذلك الإسهام في نمو الطالب خلقيا واجتماعيا.

ويمكن في هذا الصدد أن نسترشد بـ"مدونة سلوك" يتم تعميمها على جميع المدارس؛ بحيث يتعرف الطالب منذ اليوم الأول للدراسة على التزاماته وواجباته وحقوقه داخل المؤسسة التعليمية، مع تطبيق سياسة "الباب المفتوح" بين المدرسة والطالب لمناقشة أي وضع قد لا يكون مريحا بالنسبة له.

وعلى الجانب الآخر يتوجب على أولياء الأمور بناء استراتيجية واضحة للمتابعة والإرشاد لأبنائهم فـ"يد واحدة لا تصفق" وجهود مدرسية دون متابعة أسرية لا تفيد، وهي مسؤولية أبوية لا يمكن بحال من الأحوال التخلي عنها "طوعا أو كرها" للخادمة أو المدرس الخاص.

وهنا لا نبالغ إن قلنا إن بعض أولياء الأمور لا يعرف في أي صف يدرس ابنه، وما هي العلوم التي يتلقاها، وأي التحديات تعترض طريقه فيها، ومواطن الضعف والقوة لديه، متكئا على أنّ السعى على الرزق يلتهم وقته، وينهك قواه، ولا يتيح له فرصة التلاقي على "طاولة الاستذكار" ولو ساعة واحدة في اليوم، الأمر الذي لابد من التوعية بأهمية علاج الحلقة المفقودة بين المدرسة والبيت.

الموازنة هنا مطلوبة، والمتابعة واجبة؛ لا اختيارية، يتعاون فيها الأب والأم، ويؤديان دورًا تربويًا، ويعزفان على أوتار الأمل والتشجيع والتحفيز والمساعدة، الأمر الذي يخلق أجواء ملائمة تتيح التعلم والاستذكار دون قلاقل أو تأزمات نفسية.

كما إنّه لابد من تفعيل دور الحضانات والتعليم قبل المدرسي، فمن غير المقبول أن يدخل طالب في السادسة من العمر الصف الأول دون أن يجيد الأبجديّة قراءة وكتابة؛ لأنّ في ذلك الكثير من الهدر في السنوات التأسيسيّة الأولى من عمر الطفل. وهي كما يقول علماء النفس من أهم مراحل تشكيل الإنسان.

إنّ نشر الحضانات والتوسّع في رياض الأطفال أصبح أساسيًا لتهيئة النشء مبكرًا للدخول إلى المدرسة وهم ملمون بالمبادئ الأساسيّة. ويمكن للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة أن تلعب دورًا حيويًا في هذا المجال في مختلف المناطق والولايات.

إنّ الأخذ بأيدي الطلاب وإكسابهم القيم الفاضلة والسلوكيات الحميدة والاتجاهات الإيجابية مسؤولية تتشارك فيها المدرسة والبيت، ويمكن تفعيلها بتنمية دور مجالس الآباء والأمهات وتجاوز الصورة النمطية لهذه المجالس، إلى فعاليات ومشاركات تؤصل في نفوس الطلاب أنّ المدرسة والبيت هما وجهان لعملة واحدة؛ أدوارهما تتكامل وتتعاضد من أجل عملية تربوية وتعليمية تتسم بالديناميكية والتفاعل من كافة الأطراف.

وتتكامل مع دور المدرسة والأسرة، جهود وزارة التربية والتعليم وما يناط بها من مسؤوليات تطويرا شاملا ومستمرا للمناهج الدراسية وأدوات تطبيقه، بما يسمح بتدارك وعلاج ضعف الدافعية للتّعلُم لدى الجيل الجديد، وقلة الحماس التعليمي في نفوسهم مقارنة بالأجيال السّابقة، بالتوقف عند الأسباب وتشريحها لكي نضع الحُلول اللازمة لها، فالتغيرات التكنولوجية المُتسارعة، ألقت بظلالِها على المفهوم الكلاسيكي لطرائق التعلم ووسائله.. كما توجد حاجة مستجدة على الدوام لإعادة النّظر والمُراجعة لمُواكبة قطار عصر السُّرعة، والتأثيرات المُتزايدة للسطوة الإلكترونية على الجيل الجديد، ولابد من التركيز بشكل أكبر على استخدام الكمبيوتر وتوظيف ثورة الانترنت في التعليم بشكل منهجي ومدروس.. وقد بادرت الكثير من الدول المتقدمة إلى إدخال مناهج للبرمجة في السنوات الأولى من التعليم؛ الأمر الذي يحثنا على التخطيط لذلك والبدء فيه بشكل عاجل وسريع.

مع الحرص على تنمية قدرات ومهارات وإثراء معارف المعلمين، وتدعيم وتشجيع بناء شراكة مجتمعية بين المدرسة والمنزل والمجتمع المحلي لبناء إنسان صالح ومواطن مخلص، يسهم في بناء وطنه وتنمية مجتمعه، وينبغي أن ينطلق ذلك من رؤية مشتركة وواعية، وأن تتكامل الجهود، وتبنى على أسس صحيحة وصلبة مما يعظم المردودات الإيجابيّة للعملية التعليمية؛ فمن الأهمية بمكان، ولكي تنجح هذه العملية أن تشارك جميع الأطراف فيها وبفاعلية وكفاءة من الأسرة، والمجتمع والحكومة ممثلة في المدرسة وبيئة العمل، والالتزام بتحقيق تلك الأهداف.

إننا نطمح إلى عملية تعليمية تكون مخرجاتها قادرة على الإنتاجيّة والفاعلية بفعل مهاراتها وكفاءتها لتحقيق أهداف التنمية عبر الابتكار، ومواجهة التغيّرات المتسارعة في عالم اليوم، وهذا من أهم أهداف التعليم، والتي تشمل الواقعيّة وملامسة الاحتياجات الآنيّة والقابلية للتحقق على أرض الواقع، والشمولية لكافة جوانب الحياة، بحيث لا تركز على جانب دون آخر؛ علاوة على ربط الجوانب النظريّة بالعمليّة في العملية التعليميّة حتى لا تكون منفصلة عن الواقع مع الحرص على أن تكون عمليّة التعليم مستمرّة ومحفّزة للتفكير العلمي والوعي.

وتتعاظم حاجتنا إلى أن تتم مراجعة الأهداف والتوجّهات الإستراتيجيّة للعملية التعليمية بصفة مستمرة للعمل على مواجهة التحديات وتذليل العقبات، مما يدفع فعالية التعليم إلى الأمام، ويسهم في زيادة إنتاجية المتعلمين وتحسين أداء المخرجات بما يلبي المتطلبات.

تعليق عبر الفيس بوك