تحفيز الاستثمار السياحي

ما إن تنزل من بوابة الطائرة التي تحط بك في مدينة صلالة، وتصافح وجهك نسمات الخريف الباردة؛ حتى تشعر بالانتعاش والنشاط والبهجة تداعب روحك، فالحياة جميلة هناك في بهجة الخريف، وقادرة على أن تمحو من ذاكرتك درجات الحرارة القاسية التي كانت تلفح وجهك قبل ساعة.

وما إن تركب السيّارة خارج المطار حتى يستقبلك شارع المطار الفسيح بخضرته المنتشرة على دفتيه يمينا وشمالا، في لوحة بديعة تغريك بأن تتريض تحت رذاذ الخريف وكأنك تسبح في عالم من الجمال الأسطوري.

هذه المشاعر تتجدد بخاطري كلّما زرت صلالة، بل وينتابني شوق جارف وحنين من نوع نادر إلى تلك الأكشاك الصغيرة "أكشاك النارجيل" المنتشرة في الدهاريز والحصبلة والحافة.

عطش صحراوي يقودني إلى تلك الأكشاك لأحتسي الكوب الأول فالثاني، وتلح عليّ الرغبة في تناول الثالث، لأشعر بعده بارتواء، وكأنّ شراب جوز الهند يتغلغل ويتسرّب من مجراه الطبيعي إلى حيث تسكن الروح، فينعشها ويعيدها للحياة من جديد، وهكذا يفعل الكثيرون من زوّار صلالة.

وما إن أدخل أرض المهرجان حتى تتجه قدماي إلى البيت التراثي؛ حيث تأسرني نغمات الكاسر والرحماني والفنون الأصيلة من برعة وشرح وطبل ودان، يا لهذه الفنون الأصيلة من شجن وبهجة ممتدة حتى قلب الليل.

كما إنّ السهول الخضراء والعيون والجبال الشوامخ تجدد في نفسي بواعث الأمل حاملة معها موجبات الفرح والسرور، متوشحًا برذاذ الخريف.

و وسط هذا الجو المملوء بالغبطة والامتنان والزخم السياحي غير المسبوق الذي تعيشه محافظة ظفار تلح على خاطري العديد من التساؤلات المتعلقة بالتنمية السياحية في بلادنا؛ وباستقراء الإستراتيجية التي اختطتها وزارة السياحة لتطوير القطاع نجد أنّها من الناحية النظرية تحتوي على محاور جيّدة للغاية، ترتكز على تحقيق التنمية الاقتصادية، وتوفير فرص العمل والمحافظة على الإرث الطبيعي، والتراث الثقافي، وتحقيق التعايش السلمي بين الثقافات، والعمل على زيادة الاستثمارات، وترويج السلطنة كوجهة سياحية من خلال توظيف المميزات النسبية لزيادة مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي في إطار سياسة تنويع مصادر الدخل الوطني.

لكن من الناحية العملية نجد أنّ القطاع يساهم بـ2.4% من إجمالي الدخل الوطني بحسب إحصائية 2012 بقيمة 719.3 مليون ريال، وقد زار البلاد في العام الفائت 2.1 مليون سائح بزيادة تقدر نسبتها بـ7.8% عن العام 2012، وهو نجاح يسجل لجهود وزارة السياحة؛ لكن يجب البناء عليه بشكل قوي؛ مستفيدين من مجمل المقوّمات الطبيعية والحضارية التي تتمتع بها بلادنا.

ومن المؤكد أنّ افتتاح مطاري مسقط وصلالة خلال العام القادم؛ وتطوير أسطول الطيران العماني، وضخ المزيد من الاستثمارات في الفنادق والمجمّعات السياحية سيحفز القطاع الخاص العماني؛ للاستفادة من الفرص التي يمنحها هذا القطاع الواعد، ولابد من تعزيز مفهوم الشراكة بين القطاعين في الاستثمار السياحي.

الأمر الذي يستدعي وبشكل عاجل الوقوف على بنود الإستراتيجية الحالية من جديد، وإجراء تعديلات جوهريّة من شأنها ليس فقط ضمان التدفق السياحي الذي يتواكب مع إمكانيات السلطنة ويرفد اقتصادها بنسب أعلى من تلك التي يُخطط لها حاليا (3% في العام 2015)، بل يسهم في نمو صناعة عملاقة تشكل قاطرة التنمية الاقتصادية في بلادنا. إننا يجب أن نأخذ في الاعتبار نمو هذه الصناعة على المستوى الإقليمي والعالمي، عبر آليات جديدة تتمثل - بعض منها- في سياحة المعارض والمؤتمرات، وسياحة البطولات الرياضية، والمهرجانات الثقافية، وغيرها من أنواع السياحة التي تجتذب الملايين حول العالم.

إنّ المتأمل لجغرافية السلطنة وكنوزها يجد أنّها قادرة عن جدارة واستحقاق لتكون المحطة الأولى للسائحين ليس في منطقة الخليج فحسب بل الشرق الأوسط بأسره، فلدينا الجبال الشامخة والوديان الآسرة، والشواطئ الممتدة، والكهوف التي يرجع بعض منها إلى ملايين السنين، والحصون والقلاع، والآثار التي تنطق بعظمة وحضارة الأجداد، والبساط الأخضر الذي يشكل لوحات بديعة وكأننا في قلب أوروبا، والطرق المعبدة، والموانئ.. و.. و..

إنّ هذه الصناعة الفتيّة تحتاج إلى تهيئة البنى الأساسية التي تشجع الزائرين، وتغري شركات السياحة العملاقة بأن تضع السلطنة ضمن الوجهات المفضّلة والمرغوب فيها، ويتضمن ذلك نمو قطاع الفنادق وفق خطط تراعي احتياجات الزمان والمكان بدلا من أن تتكدس في منطقة وتختفي من مناطق، بالإضافة إلى تأهيل الكادر البشري الوطني للعمل بهذا القطاع عبر نوافذ تعليمية تراعي احتياجات السوق ومتطلباته.

وفي يقيني فإننا يجب أن نضع ضمن أهداف المرحلة الحالية تنويع المنتج السياحي بما يعكس تنوع وغنى المقومات والمواقع السياحية في السلطنة مع توفير إطار تشغيلي وإداري لتحسين أداء المواقع السياحيّة والخدمات الأساسية التي تقدم ضمنها، بالإضافة إلى الوصول إلى الأسواق السياحيّة الواعدة مع زيادة الاستثمارات السياحية؛ خاصة وأنّ لدينا منتجًا يمكن تسويقه سياحيًا على مدار العام وهذه ميزة نادرًا ما تتوفر في بلد.

ومن الواضح جدًا أنّ نوعيّة السياحة التي تناسب وتجذب السياح في بلادنا هي السياحة العائلية وخاصة من دول مجلس التعاون، الأمر الذي يترتب عليه أهمية توجيه الاستثمارات في هذا الإطار بما يخدم هذه الفئة، سواء بزيادة عدد المجمّعات التجارية العملاقة وتجهيز أماكن مخصصة لألعاب الأطفال أو غيرها.. إنّ تحديد التوجّه من الأهميّة بمكان كونه يحدد ويحفز الاستثمارات الموجهة.

وفي هذا السياق سوف تساعد الاتفاقيات السبع التي وقعها مؤخرًا معالي الفريق حسن بن مُحسن الشريقي المفتش العام للشرطة والجمارك، مع عدد من الشركات المحليّة المتخصصة؛ لتطوير وإعادة بناء 3 منافذ بريّة، وتطوير منفذ حفيت بمحافظة البريمي، في سهولة تدفق الحركة السياحية القادمة عبر هذه المنافذ.

إننا يجب أن نعطى صناعة السياحة مكان الصدارة ضمن خططنا الوطنية فهي من الصناعات التنموية نظراً للدور الذي تلعبه في دفع عجلة التنمية الاقتصادية باعتبارها محركاً رئيسياً لكثير من القطاعات الاقتصادية الأخرى، مما يجعلها رافدا من روافد الاقتصاد الوطني في جميع دول العالم، فلا يمكن عزل قطاع السياحة عن باقي قطاعات الخدمات مثل، التجارة، البنوك، النقل، الإعلام، تكنولوجيا المعلومات، التأمين، وغيرها من الخدمات التي ترتبط بحركة السياح.

تعليق عبر الفيس بوك