د. رضية بنت سليمان الحبسية
كثُر الحديث حول مفهوم حرية الرأي والتعبير بين أوساط المُثقفين على اختلاف أيديولوجياتهم الفكرية، وانتماءاتهم الفلسفية. ولا يزال الجدل قائماً فيما هو واقع تحت مظلة حرية الرأي الحسن، أو مغبة سلوك مسيء، وما هي الخطوط الفاصلة بين الحرية التعبيرية، والتّهجم على شخوص ورموز مُجتمعية.
وفي أواخر العصر الحديث، فإنّ الفيلسوف جون ستيورات ميل كان يُعد من أوائل الذين نادوا بحرية التعبير عن أي رأي، مهما كان هذا الرأي غير أخلاقي في نظر البعض، وكان جون ستيوارت ميل من الداعين للنظرية الفلسفية التي تنص على: "أنّ العواقب الجيدة لأكبر عدد من الناس، هي الفيصل في تحديد اعتبار عمل أو فكرة معينة أخلاقيًا أم لا. وكانت هذه الأفكار مناقضة للمدرسة الفلسفية التي تعتبر العمل اللاأخلاقي سيئا، حتى ولو عمّت فائدة من القيام به" (المصدر: ويكيبيديا).
والتعبير عن الرأي حق من حقوق الإنسان، وهو ما نصّت عليه المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل، والسعي للحصول على المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها من خلال أي وسائط وبغض النظر عن الحدود". ويشير الإعلان ذاته إلى وجوب إخضاع تلك الحرية إلى قوانين وقيود تُنظّم ممارسة ذلك الحق؛ إذ إنّ في ممارسته ينبغي أن يكون مراعيا لحقوق الآخرين. وفي وجوب القيام به، لابد من تجنّب المساس بسمعتهم، واحترام خصوصياتهم، وبما يحقق حماية للأمن القومي، أو النظام العام، أو الآداب العامة في المجتمع؛ حيث إنّ من حق أفراد أي مجتمع أن ينعموا بالأمان، ويعيشوا باستقرار في كيان ينتمون إليه.
وبالتّأمل في آي القرآن الكريم، نجد أنَّ الدين الإسلامي بيّن قانون الرقابة القائمة على قانون المنفعة في حرية التعبير عن الرأي، كما جاء في سورة (الرعد: الآية 17)؛ إذ قال تعالى: ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾. وفي هذه الآية يضرب الله الأمثال للنَّاس لعلهم يتفكرون؛ ليتضح الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والمعروف من المنكر، وحسن التمييز بين الخير والشر.
وفي مواطن كثيرة من آي الذكر الحكيم، ما يُعدّ مُوجِهًا للبشرية على قبول الآخر، والتعايش السلمي، والحوار العقلاني والرصين؛ بغية الوصول إلى المعلومات والحقائق، بما لا يلحق بالضرر بالآخرين، أو الإساءة إلى جهة مرجعية بعينها. فالإسلام منهج معتدل صالح لكل زمان ومكان، والحرية فيه مقيّدة بموافقة الشرع، لكي لا تختلط الأمور على الناس، وتسير الحياة كما جعل الله لها أن تكون.
ختامًا.. إنّ حرية التعبير عن الرأي يكفلها القانون في أي مجتمع كان. وفي اليد الأخرى، فهي لا تعني التصلّب في الرأي، أو التغلّب على الطرف الآخر بإحراجه أو التنمر عليه. كما لا يجوز أن تكون مرتعًا خصبًا للفتن، أو التفنن في السفسطة؛ للمغالطة والتمويه في قلب المواقف، وتغيير الحقائق، خاصة في الحوارات واللقاءات العامة، أو عبر الوسائط الإعلامية المختلفة. فالإسلام لا يقرّ ممارسة الحريات، في إطار من التغرير أو التضليل للآخرين؛ بهدف إيقاع الضرر بهم، أو توريطهم في قضايا ذات تبعات قانونية، نصت عليها القوانين والأنظمة على مختلف المستويات القومية والدولية.