منارات على طريق الريادة الحضاريَّة

 

كنتُ -كالكثيرين غيري- أظنُّ أن منارات الإشعاع الثقافي، والمراكز العلمية، حكرٌ على العاصمة مسقط دُون غيرها من بقية محافظات وولايات السلطنة، إلا أنَّ هذا الظن لم يعد قائمًا في أعقاب معايشة للواقع في محافظتي شمال وجنوب الشرقية، خلال الأيام الثلاثة المنصرمة.

وقد كنتُ محظوظا بالفعل، وأنا أجوب ولايات الشرقية بمعية "مكتبة السندباد المتنقلة"، أن أطَّلع على بعض هذه المراكز الفكرية القائمة، وأقف على ما تقدِّمه من إسهام معرفي ملموس في مجتمعاتها، في تجسيدٍ واقعي للشراكة المجتمعية، خاصة وأن هذه المنارات التي أصبحت سامقة في سماء المعرفة والإبداع، كانت قد بدأت بمبادرات فردية، سعى إلى تحقيقها مواطنون فاعلون؛ ليستقطبوا دعمَ المجتمع لمبادراتهم.

وتقفُ المكتبة العامة بصور، ومركز سناو الثقافي الأهلي، ومركز الاستكشاف العلمي بإبراء، شواهدَ حية على هذه المبادرات التي نَمَتْ وترعرعت لتصبح منارات سامقة في المشهد المعرفي، وعلامات فارقة على التفكير والإبداع، يستفيدُ منها أفرادُ المجتمع في جنوب وشمال الشرقية.

... أُتيحت لِيَ فرصة أنْ أستكشف هذه المراكز الثقافية والعلمية، والتي فاجأتني -والحق يُقال- بما تقدمه من خدمات جليلة للأجيال، وما تساهم به في إثراء المشهد الثقافي العُماني.

ويُساعد التنوع الذي تتسم به هذه المراكز في تعظيم الفائدة منها، وتحقيق التكاملية بين أدوارها، ما بين توفير الكتب لعشاق القراءة والاطلاع، وإقامة المحاضرات والندوات، وُصولا إلى تطبيقات الابتكار العلمي، وتبنِّي المواهب الشابة في مجالات الإبداع والابتكار؛ لتكون قادرة على المنافسة ليس على مستوى السلطنة فحسب، بل عالميًّا.

وما يجمعُ هذه العلامات المضيئة، أنها أمثلة تجسِّد مفهوم الشراكة في التنمية في بلادنا؛ والشراكة هُنا تعني أن يسعى الأفراد في مجتمعاتهم إلى تبني مبادرات تحقق أهدافاً شاملة، وتخدم الصالح العام في جميع المجالات: الفكرية، والثقافية، والإبداعية...وغيرها. في بادرة تنمُّ عن تأصل مفهوم خدمة المجتمع في نفوس أبناء الشعب العُماني، وهي صيغة متقدمة للعمل التطوعي ونهوض المجتمع المدني.

... إنَّ مثل هذه المبادرات تستحق الدعم الحكومي والمجتمعي لتحقيق أهدافها المرجوة، وبما يكفلُ لها التطور؛ لتكون قادرة على تقديم المزيد من العطاء لمجتمعها ووطنها.

ولنقف قليلا عند المبادرات الناجحة التي أشرتُ إليها في صدر هذا المقال:

المكتبة العامة في صور، والتي تفتح أبوابها ليرتادها جميع رواد الحرف، ومحبي الاطلاع، وتزخر بمئات العناوين في شتى صنوف المعرفة.. تم تأسيسُها قبل خمس سنوات بمبادرة من الكاتب والروائي محمد عيد العريمي، وبدعم ومؤازرة مجموعة من المثقفين والمهتمين من أبناء صور؛ لتقف اليوم صرحا معرفيا يرفد من يرتاده بمتعة القراءة، ولا يقتصر دور المكتبة على إعارة الكتب، بل يمتد ليشمل إقامة الندوات والمحاضرات؛ تعميمًا للفائدة. وأتصورُ أن القائمين على المكتبة قد يفكرون في توسيع دائرة أنشطتها مستقبلا لتنداح وتشمل جوانب تدريبية، أو مهارات لغوية...وغير ذلك؛ مما يمكن أن يخدم مجتمع صور، ويعظم استفادته من هذا الصرح التنويري.

وثاني المبادرات التي كان لي شرف الاطلاع على مرافقه: مركز سناو الثقافي الأهلي؛ الذي افتُتح قبل عدة أشهر، وأنشئ بجَهد أهلي لخدمة الثقافة والعلم في النيابة.. والمركز مُجهَّز بقاعة مسرح تتسع لأكثر من 300 شخص، ومكتبة عامة. ويجسد هذا المركز شغفَ أبناء سناو بالثقافة والاطلاع، وهو أمر لمسته خلال ورشة القراءة التي أقامتها "مكتبة السندباد المتنقلة"، مساء أمس الأول؛ حيث أعجبت حقا بحرص الآباء والأمهات على تعليم أبنائهم، ومتابعة تقدمهم في مهارات الكتابة والقراءة. وقد انعكس ذلك على التساؤلات المفعمة بالحماس، التي كانوا يطرحونها على القائمين على مكتبة السندباد؛ ومنها: أب يسأل عن كيفية تطوير مهارات القراءة لدى ابنه؟ وآخر يستفسر عن السبيل لتشجيع ابنته على القراءة في ظل مداومتها على ألعاب الكمبيوتر؟...وغيرها من الأسئلة، التي تشف عن التزام حقيقي من الآباء تجاه تعليم أبنائهم أكثر عن أي وقت مضى؛ إدراكاً منهم بأن العلم هو ما يجب أن يتزود به الأبناء في رحلتهم بهذا العالم المتحرك بوتيرة متسارعة.

وثالث المبادرات: مركز الاستكشاف العلمي بإبراء؛ والذي يُشكل مفاجأة كبيرة لكل من يزوره للمرة الأولى، ويطلع على تجهيزاته التي تضم آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا من مختبرات ولوحات وبرمجيات تفاعلية تخدم المواد العلمية، وقاعة سينما علمية ثلاثية الأبعاد، وقاعات لمختلف التخصصات. وينشط المركز في إقامة الورش والدورات المتخصصة؛ مثل: دورة "الروبوت"...وغيرها، والتي تهيئهم لتوسيع مداركهم الإبداعية والابتكارية، وتؤهلهم للمنافسة في مسابقات عالمية بإبداعاتهم وابتكاراتهم. وهذا المركز الذي وصل إلى هذه المكانة، كانت بدايته من قبل بعض الشباب المتعلم والمخلص والطموح، الذين بدأوا التفكير في هذا الصرح قبل عشر سنوات، وتدرَّجوا في بنائه حتى وصل إلى ما هو عليه اليوم ضمن تخطيط واعٍ، ومراحل للتطوير تستوعب المستجدات وتتفاعل إيجاباً معها؛ ليتم افتتاح المركز رسميًّا قبل عامين، ويحظى بإشادة التربويين، ومباركة وزيرة التربية والتعليم لهذا المركز، الذي يُعتبر اليوم من المراكز العلمية التي تتوافر على أجهزة وبرامج تهدف إلى إثراء البحث العلمي والابتكار لدى الصغار. والمركز مُقبل على مراحل تطوير جديدة، ويحتاج إلى دعم من القطاع الخاص والأفراد الميسورين في الكثير من البرامج المرتبطة بالعلم والبيئة العلمية.

ومن المؤكد أن هذا المركز سيؤتي ثماره الرائعة في المستقبل القريب؛ في مجالات لصيقة بعالم اليوم من ابتكارات وتقنيات حديثة.

... ما نستلهمه من هذه المشاريع الرائعة والطموحة، هو أنَّ الشراكة يمكن أن تفضي إلى مبادرات ناجحة تخدم المجتمع وتساهم في رقيه، مُجسِّدة بذلك حقيقة أن الشراكة المجتمعية عامل أساسي في نجاح التنمية.

فالتنمية لم تعد مسؤولية الحكومة فحسب، بل مسؤوليتنا جميعا كمواطنين على هذه الأرض الطيبة.. ولا يمكن أن ننتظر من الحكومة القيام بكل شيء، بل علينا -كمواطنين- أن نبادر إلى بناء وإدارة بعض المرافق كالمكتبات العامة...وغيرها من المرافق التي تقدم خدمات جليلة للمجتمع. وهذا قطعاً يتطلب تحلي المواطنين بروح المسؤولية والحس الوطني العالي الذي يواكب سقف التوقعات من الأفراد، والذي سجل ارتفاعا ملحوظا في هذه المرحلة.

ويقود هذا إلى ضرورة تعهد الحكومة لمؤسسات المجتمع المدني بالدعم والرعاية؛ حتى تقوم بدورها المساند للجهد الرسمي في قضايا التنمية وبث الوعي...وغيرها من أدوار تقوم بها الجمعيات المختلفة في مختلف المجالات.

والخلاصة: أنَّ مثل هذه المشاريع والمبادرات الناجحة في خدمة المجتمع، يمكن أن تكون نماذج، ينبغي العمل على تعميمها لتعكس مدى نضج التجربة العُمانية في مؤسساتية المجتمع المدني، وقدرتها على استنباط مبادرات وأفكار ريادية تصب في خدمة المجتمع العُماني، وتعزيز ريادته الحضارية.

تعليق عبر الفيس بوك