لا يختلف اثنان على أنّ بلادنا تشهد تغيرات مناخية جذرية، يمكن تأريخ بدايتها بالأنواء المناخية "جونو2007"..
وإرجاع هذه التغيرات إلى ظاهرة الاحتباس الحراري؛ تظل فرضية تتطلب الكثير من الدراسات من المختصين ومراكز البحوث؛ لأنّ إثباتها تترتب عليه الكثير من القرارات الاستراتيجيّة المتعلقة بالتخطيط للتكيف مع الواقع المستجد..
ففي حال التيقن من أنّ هذه نتيجة حتمية للاحتباس الحراري الذي يعني:"ارتفاع في درجات الحرارة نتيجة تغيير في سيلان الطاقة الحرارية في بيئة ما.. وينجم عن ذلك جفاف في بعض المناطق، تقابله فيضانات وزيادة في مناسيب الأمطار في مناطق أخرى من العالم؛ فإنّ ذلك يحتم علينا الانتقال من خانة الحديث النظري، والمناسباتية في الطرح التي تتجدد مع كل منخفض، إلى خطط تتعامل بواقعية مع المعطيات الجديدة..
وبداية، لا تعد هذه الظواهر المناخية شرا مطلقا، خاصة في جانبها المتعلق بهطول كميات كبيرة من الأمطار، وقد شهدنا وعلى مدى "المنخفضات "الجوية التي شهدتها بلادنا منذ "جونو" وحتى الآن، تحولات إيجابية لجهة تعظيم المخزون المائي، وعودة المياه إلى الكثير من الأفلاج التي جفت، وتراجع الملوحة في المناطق الساحلية، وكل هذا يعود بالانتعاش على الغطاء الأخضر؛ حيث عادت الكثير من القرى إلى اخضرارها، وأينعت بعد أن عادت الأفلاج بقوة بعد جفافها لسنوات، وعمّت الفرحة الأهالي بعودة المياه إلى قراهم ومزارعهم..
ففلج "أبو الشياطين" بالدريز بولاية عبري، استأنف الجريان إثر الأمطار الأخيرة، وغيره من الأفلاج التي عادت إلى الحياة لتعود معها الخضرة والنضار إلى ربوع المزارع على امتداد السلطنة.
بالإضافة إلى الاعتدال في درجات الحرارة، والأجواء الرائعة التي انعكست على المزاج العام، وأنعشت السياحة الداخلية..
هذا عن المظاهر العامة التي تواكب هذه المتغيّرات الجوية، ونأتي الآن إلى الشق الأعمق والمتعلق بالحاجة إلى الدراسات العلمية والمنهجية لمتابعة هذه المتغيرات المناخية، ورصدها بشكل علمي دقيق، معززًا بالأرقام والاستفادة من ذلك في وضع الخطط التي تعيننا على التعامل معها بصورة منهجية ومدروسة؛ للحد من آثارها السلبية، وتعظيم الاستفادة من جوانبها الإيجابية.
إنّ الرصد العلمي يتيح لنا اتخاذ القرارات الإستراتيجية المهمة وخاصة المتعلقة بأمور التخطيط العمراني؛ بحيث يتم التحوط لما سينجم عن هذه المتغيرات المناخية من خلال خطط بعيدة الأمد، تراعي مجاري الأودية وتوسعاتها المستقبلية؛ بحساب الزيادات المتوقعة في منسوب المياه، ويتم تفادي البناء في حرمات الأودية أو قريب منها..
كما إنّ شوارعنا - في أغلبها- لا زالت تعاني من عدم وجود قنوات تصريف لمياه الأمطار، إلا أنّ ذلك يصبح ضرورة ضمن اعتبارات الحالة الجديدة وظروفها، لذا لابد من أن يضع التخطيط المستقبلي ذلك في الحسبان، حتى نتفادى ما نشاهده حاليًا عقب كل أمطار منخفض حيث تتجمع المياه في الشوارع والطرقات لتشكل بركًا تتسبب في الكثير من الحوادث، وتسيء للمظهر الحضاري للمدن والقرى، إضافة إلى المشاكل الصحية التي تنجم عنها عندما تصبح راكدة.
وبدلا من العمليات التقليدية والمكلفة لشفط مياه الأمطار، علينا التفكير في مسارات لمياه الأمطار قد يكون أكثر كلفة إلا أنّه أكثر جدوى على المدى الطويل. ولدينا أمثلة رائعة، ورصيد من من التخطيط على مدى العقود الأربعة الماضية ومن أفضل النماذج في الثمانينيات والتي ينبغي الإشارة إليها تخطيط الحي التجاري بمطرح الكبرى، وحي شاطئ القرم، حيث حققت العملية التخطيطية فيهما نجاحات ماثلة أمامنا من مختلف النواحي، ولا أدري لماذا لا نواصل البناء عليها لنخطط لمدننا بشكل مدروس وحضاري. والمتأمل لمنطقة غلاء على سبيل المثال يدرك أنّ لدينا فرصة عظيمة لإقامة مركز جديد وحديث لمدينتنا لو أحسنا التخطيط له بمعايير منهجية تراعي مساحات الخدمات الرئيسية، مع تفادي العشوائية في البناء.
من المؤكد أنّ مرحلة توالي المنخفضات الجوية، ستفرض علينا إقامة المزيد من الجسور لتفادي مسارات الأودية، ولتكون بمثابة حلول لتفادي الاختناقات المرورية وتقليل الحوادث إبّان هطول الأمطار..
ومن الأمور التي تحتاج للتخطيط المستقبلي؛ كيفية الاستفادة القصوى من المياه، من خلال رفع كفاءة السدود القائمة، والتوسّع في إنشائها،
وأن تعدل وجهة النظر حول قطاعنا الزراعي الذي كان يعاني من شح المياه، وتصحيح الصورة النمطية بأنّ عمان بلد صحراوي محكوم بشح المياه، حيث إن هذه الصورة، ستكون قابلة للتغيير في السنوات المقبلة وخاصة مع تراجع مشكلة الملوحة في محافظة الباطنة، وعودة عشرات الأفلاج إلى الحياة، وارتفاع المخزون الجوفي مع تتالي المنخفضات الجويّة وما تجلبه من حصاد وافر من المياه.
إضافة إلى التفكير في محاصيل زراعية موسمية يمكن أن تستفيد من موسم الهطول الغزير للأمطار، أو تخصيص مساحات مفتوحة من الأراضي بغرض تصريف المياه إليها ليستفاد منها في إنبات مراعٍ طبيعيّة لفائدة الإنتاج الحيواني في بلادنا..
وليست هذه القطاعات وحدها ما يحتاج إلى المراجعة، بل علينا إقامة مراجعة شاملة للعديد من القطاعات والخطط والإستراتيجيات لتتواكب مع المعطيات الجديدة ومنها: تطوير النشرات الجوية والأرصاد وتحديث بياناتها على مدار الساعة والتعامل بمهنيّة عالية وخاصة أثناء الإجازات الطويلة لتوفير متابعة مستمرة وعلميّة لمسارات المنخفض بشكل مباشر حتى يتمكّن المواطنون من المتابعة واتخاذ القرارات المناسبة بالاعتماد على المعلومات من قنواتها الرسمية في ظل انتشار قنوات التواصل الاجتماعي والتي لا يعول عليها كثيرًا لعدم دقتها.
وغني عن القول، إنّ توفر المعلومات الجوية الدقيقة يمكن أن يعين على التقليل من الحوادث، وتلافي الكثير من الخسائر.
وهنا أشير إلى تجربة إيجابيّة تتمثل في تعامل شركات الكهرباء بكفاءة عالية مع آثار الأمطار، وخاصة في محافظة مسقط، واعتقد أنّ هذه الشركات استفادت من تجاربها المتراكمة في التخطيط للتعامل مع مثل هذه الظروف الطارئة، واكتسبت خبرة أوسع خلال السنوات الأخيرة لمعالجة نقاط الضعف في الشبكات واتباع سياسة الصيانة الوقائية على مدار العام مما أكسبها كفاءة عالية في التعامل مع المشكلات خلال الأمطار. وهذا نموذج ناجح في التعامل مع الأمطار لمسناه جميعًا.
ويبقى سؤال: لماذا نتكبد خسائر بشرية مع حدوث كل منخفض وجراء جريان الأودية والسيول، حيث إنّه في المنخفض الجوي الأخير والذي انقشع تأثيره أمس السبت، توفي 6 مواطنين في مناطق مختلفة.. وما السبيل لتفادي تكرار مثل هذه الحوادث الأليمة؟
إنّ تفاديها يكمن في المقام الأول في تجذير الوعي، والبعد عن التهور والمسلك المجازف، والذي يعد السبب المباشر في الوفيات والاحتجازات.. وهنا تقوم شرطة عمان السلطانية والدفاع المدني بأدوار مشهودة في الإنقاذ والإسعاف للكثيرين ممن تحاصرهم مياه الأمطار وسيول الأودية..
وإبّان المنخفض الجوي الأخير شهدنا ملاحم إنقاذية بطولية قام بها مواطنون، وخاصة تلك التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي المتعلقة بإنقاذ أم وطفلها في نزوى من قبل مواطن.
وعودا على بدء.. نقول إنّ من الأبعاد المهمة للتخطيط الإستراتيجي؛ استشراف المستقبل، وقراءة احتمالات كافة المتغيرات، والتعامل معها بقدر من الوعي والمسؤولية بما يكفل لنا تفادي السلبيّات وتعظيم الاستفادة منها، على أن نعتمد في قراراتنا التخطيطية الإستراتيجية على الدراسات العلمية المعمقة، والبحث العلمي؛ خاصة في مجال المناخ كونه عرضة للتغير المستمر في ظل ما يشهده العالم من احتباس حراري متصاعد.