عُمان صَوْت الحكمة والاتزان

 يجهلُ البعضُ -في مُحيطنا الخليجيِّ- مِمَّن يُحاولون إثارة الجدل حَوْل زيارة الرئيس الإيراني إلى السلطنة، أنَّ عُمان تسير في سياستها الخارجيَّة وفق نهجِ مبادئ راسخة كجبالها الرَّواسي.. نهجٌ يقومُ على ثوابت لا تحيدُ عنها بتأثير الأهواء، ولا تُزحْزحها عنها رياحُ المزاجيَّة الطارئة.

... يتساءلون خِفيَة وعلانية: تُرى ضد مَنْ هذه الزيارة؟ ونردُّ عليهم بأنها ليست ضدَّ أحد، بل في صالح الجميع.

يتساءلون رغم أنَّهم يعلمون أن عُمان ليستْ من الدول التي تسعى للنيل من أحد، أو التكتل للإضرار بالآخرين، بل على العكس من ذلك تمامًا، تعملُ جاهدةً على نزع فتيل التوترات، وإطفاء النَّعرات العدائيَّة؛ من مُنطلق قناعةٍ راسخةٍ بأنَّ السَّلام أجدى لاستقرار المنطقة وأمنها، بخلاف النفخ في أبواق الحروب، والتي عندما يُضرم أوارُها لا تفرِّق بين النافخين والضحايا الأبرياء.

ويغفلُ المتسائلون -أو يتغافلون- عن حقائق واضحة وُضوْح الشمس في رابعة النهار؛ وهي: أنَّ السياسة الخارجيَّة العُمانيَّة باتت أحد أهم أصوات الحكمة والتعقل، في عالمٍ يمُوْج بالصِّراعات.. شَهِدَ لها بذلك الغرب، وأقرَّ لنا العالم بالمصداقيَّة، وخلوص النوايا، عندما يتعلَّق الأمرُ بالأمن والسِّلم الدوليين. والأمثلة أكثرُ من أن تُحصى أو تُعد.

ونعودُ إلى زيارة رُوحاني إلى مسقط؛ تلك الزيارة التي قوْبِلت بترحيب كلِّ مُحبِّي السلام -ليس في المنطقة فحسب، بل على المستوى العالمي- لأنها تمثل إضافة مُهمِّة لاستقرار المنطقة ككل؛ فالبيان العُماني-الإيراني المُشترك جاء حافلاً بالإشارات الإيجابيَّة حول ذلك؛ حيث عبَّر الطرفان عن "الترحيب بالتوافقات في المُباحثات التي جَرَت بين الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة ومجموعة دول (5+1)، مع التأكيد على أهميَّة استمرار هذه المباحثات وُصولاً للهدف المنشود".

وهذا الهدفُ يتضمَّن حلَّ جميع الإشكاليَّات العالقة والشائكة، عبر طاولة المُفاوضات والحلول السلميَّة. وقد عَملتْ السلطنة لذلك منذ وقت مُبكِّر؛ الأمر الذي أثمرَ عن انخراط الطرفين -الغرب وإيران- في مُفاوضات مُباشرة أثمرتْ نتائج ملموسة، وهي ماضية في التنفيذ حسب الاتفاقيَّات المُوقَّعة في جنيف.

ودعُوْنا نتساءل: أليس هذا في صالح استقرار المنطقة، ويخدم السِّلم الدولي؟

اكتستْ الزيارة أهميَّة بالغة؛ فهي الأولى التي يقوم بها الرئيس رُوحاني لدولة عربيَّة، وتعدُّ استكمالاً للزيارة التي قام بها جلالة السلطان قابوس بن سعيد إلى إيران في الصيف الماضي، والتي كانتْ أوَّل زيارة يقومُ بها حاكمٌ عربيٌّ إلى إيران بعد انتخاب رُوحاني. وهي الزيارة التي كانتْ فاصلة ومُقدِّمة لما عُرف فيما بعد بـ"مُحادثات جنيف" بين إيران والغرب، والتي تجسِّد نهجَ وحكمة جلالته في ترسيخ تقاليد الحوار؛ باعتباره الطريق الأمثل لحل الخلافات، والوصول إلى التوافقات التي تحفظ للشعوب مُقدَّراتها، بدلاً من أن تُهدر في صراعات وحروب لا طائل من ورائها.

ومن سمات الدبلوماسيَّة العُمانيَّة: العملُ في صمت، وإعلاءُ قيم التفاهم والحوار، بعيداًً عن الانفعالات والعواطف، والصوت العُماني يحملُ دائمًا بُشرى السَّلام في أحلك الظروف. ومن بين الغيوم المُلبَّدة بشحنات التنافر، ينبري هذا الصوتُ داعيًا إلى إعطاء السَّلام فرصة هو جديرٌ بها لإبعاد شبح الحروب والدمار عن المنطقة والعالم.

واتساقاً مع هذا الموقف المبدئي، تسعى عُمان دائمًا لأن تكون صديقة للجميع، وبلا أعداء، تحفُّها مصداقيَّة عالية المُستوى دوليًّا، نالتها عن جدارة واستحقاق عبر ممارسات عُقود من العمل الصادق، والتوافق بين القول والفعل.. إنها سياسةُ الحكمة التي تضعُ مصلحة شعبها ووطنها أولاً، وتشجِّع الاخرين على اعتماد الحوار كأسلوبٍ حضاريٍّ لحل جميع الخلافات بعيدًا عن التهديد والوعيد والتلويح بالعنف الذي لا يُجدي أصلاً، بل قاد منطقتنا العربيَّة إلى الكثير من الخراب والخسران في حروب عبثيَّة لا تخدمُ الأوطان في شيء.. حروبٌ جاءت على حساب التنمية والبناء والعُمران، واستفاد منها سماسرة الحُروب ومصانع السلاح الغربيَّة، وتبقى إسرائيل المُستفيد الأوَّل من كل ذلك الهدر، وهذا النزيف.

... جاء رُوحاني إلى السلطنة، وفي معيَّته فريقٌ متكاملٌ، لا لتكوين أحلاف أو تشكيل جبهة ضد أحد؛ لأنه يُدرك مواقف السلطنة الثابتة والرَّاسخة والمُعلنة. بل جاء لتقوية وتدعيم العلاقات في شتى المجالات، واستصحب لهذا الغرض وفدًا مكوَّناً من: وزراء الخارجيَّة، والنفط، والطرق والكباري، وإعمار المدن، والعمل، والشؤون الاجتماعيَّة والبيئيَّة...وغيرهم؛ بهدف تعزيز التعاون المُشترك بين البلدين في أكثر من مجال؛ استثمارًا لعوامل عديدة مُشتركة؛ لعل أبرزها: العاملُ الجيواستراتيجي؛ حيث إنَّ البلدين يُشرفان على مضيق هرمز (شُريان الطاقة) الذي تمرُّ عَبْرَه مُعظم إمدادات النفط إلى العالم، إضافة إلى الأواصر التاريخيَّة والثقافيَّة، وعلاقات حُسن الجوار بين البلدين.

ترتبطُ السلطنة وإيران بمصالح حيويَّة عديدة أخرى، قابلة للتعزيز والتطوير، واستثمارها بشكل أكبر بما يخدم الشعبين الصديقين.

والاتفاقيَّات التي تم توقيعها -وهي ثلاث؛ في مجالات: الغاز، والعمل، والتدريب المهني- تخدمُ البلدين في جانبين مُهمَّين: الأول يتعلق بالطاقة، والثاني يختصُّ بالموارد البشريَّة.

وهذا التوجُّه يستجيبُ لمصالح السلطنة، في ظلِّ النهضة الصناعيَّة الكبيرة المُرتقبة مع قيام المشاريع العملاقة في الدُّقم وصُحار وصلالة، والتي تحتاج إلى إمدادات غاز موثوقة ومُتصلة. وهذا ما يُوفِّره خطُ أنابيب الغاز من إيران إلى السلطنة.

... إنَّ الاستثمارات المُستقبليَّة التي يحتاجُها اقتصادُنا الوطني، ترتكزُ على المشاريع الكُبرى؛ ومنها: الاستثمار في منطقة الدُّقم، التي ضخَّت فيها الحكومة مبالغ كبيرة لتجهيز البنية الأساسيَّة؛ بغيَّة استقطاب الاسثمارات الأجنبيَّة، خاصة الشراكات الاستراتيجيَّة؛ ومنها: الاستثمارات الإيرانيَّة.

وعندما نتحدَّث عن الاسثمارات الأجنبيَّة؛ فإنَّنا لا نعني المُؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي قد تزاحم روَّاد الأعمال العُمانيين، ولكنها الاستثمارات المُوجَّهة نحو قطاعات مُعيَّنة بما يخدم الاقتصاد الوطني ويزيد تنافسيته.

إذن؛ الزيارة لم تكنْ مُفاجئة أو مُستغربة، بل امتدادٌ حقيقيٌّ لعلاقات وطيدة تربطُ البلدين الصديقين، ونجاحٌ للدبلوماسيَّة العُمانيَّة التي تُؤمِنُ بتعزيز المصالح المُشتركة وتقوية الصِّلات مع جميع البُلدان.

.. إنَّ مُستقبل العلاقات بين السلطنة وإيران واعدٌ، وسيشهدُ الكثيرَ من الفرص التي تدعم المصالح المُشتركة للشعبين الجارين والصديقين؛ بما يعودُ على التنمية والاستقرار في المنطقة بكل ازدهار. كما أنَّ هذه العلاقات الإيجابيَّة ستُساهم في تخفيف التوتر بالمنطقة، وهذا سينعكسُ إيجابًا على أجواء السِّلم والاستقرار بالإقليم؛ وبالتالي العالم ككل.

لقد اكتوتْ المنطقة بما يكفي من الحُروب العبثيَّة، وعانتْ شعوبُها من ويْلاتها، وقدْ آن الأوانُ لصوتِ الحكمةِ القادم من عُمان أن يعلو، وأن تعودَ السُّيوفُ لأغمادها؛ فمعركتُنا الحقيقيَّة تكمنُ في اجتثاث الجهل والفقر والمرض والتطرُّف.

تعليق عبر الفيس بوك