الموسوعة العُمانية.. الحضارة والهويّة

ما إن تدلف إلى قاعات معرض مسقط الدولي للكتاب، حتى تتلقفك الأجنحة والأركان، وتستثير حواسك رائحة الورق والأحبار، وتقود خطاك عناوين الأسفار في شتى صنوف العلم والمعرفة.

معرض مسقط الدولي للكتاب وهو يلامس عقدين من الزمان من عمره المديد - بإذن الله - أضحى عرسًا ثقافيًا سنويًا، بل والحدث الأبرز على رُزنامة الفعاليات التي ننتظرها بشوق المحبين لعناق حدائق الفكر والثقافة القادمة من كل حدب وصوب والآتية من كل فجٍ عميق.

تشعر، وأنت تدخل إلى القاعات المكتظة بالبشر والكتب، بطاقة إيجابيّة تغمرك وتحثّك على معانقة الكلمات والحروف بحرارة في ذلك الروض العاطر. وفي كل عام يفاجئنا هذا العرس الثقافي بإشراقات جديدة وومضات وهّاجة، تجعلنا ننتظر إطلالته بشوق العاشق الولهان..

واللافت في معرض هذا العام، هو الحضور الكبير للإصدارات العُمانيّة والناشرين العُمانيين والعديد من الأسماء الجديدة القادمة بقوة إلى ساحة الإبداع لتحتل فيها مكانًا لائقًا..

خمسون من فرسان الكلمة المجنحة، ورواد الفكرة المحلقة في فضاءات الإبداع، انضموا هذا العام إلى سجل المبدعين العمانيين من خلال نشر باكورة أعمالهم لتزدان بهم أجنحة وأركان المعرض، ولتؤشر على الجذوة الإبداعيّة المتقدة في نفوس أبناء عمان.. الذين جادت قرائحهم بالشعر والقصّة، وتجاوزت ذلك إلى ميادين الترجمة والسيرة الذاتيّة والنقد الأدبي والرواية وأدب الرحلات والرياضة والبيئة وغيرها من صنوف الإبداع.

واستطاعت كتابات الجيل الجديد من الكتاب أن تطغى بحضورها، وتتسيد المشهد الثقافي، ويتوازى مع ذلك طلب متزايد على الكتاب الديني الذي تتصدره دور نشر مرموقة كمكتبة مسقط والضامري والأجيال والتي طورت من كتبها بشكل كبير في السنوات الأخيرة من النواحي الإخراجيّة والتأليفية، وهناك دار الغشام التي فاق عدد إصداراتها التسعين كتاباً وهو إنتاج غزير إذا ما قورن بعمرها والذي لم يتجاوز الثلاثة أعوام. واللافت في معرض الكتاب لهذا العام، تخصيص قاعة أحمد بن ماجد لكتب الأطفال والتي يتصدرها الناشرون السوريون رغم ما يعانونه من محن وشقاء بسبب الصراع الدموي الذي ابتليت به بلادهم.. علاوة على تخصيص جزء من القاعة لفعاليات الأطفال التي تشهد الكثير من الإقبال من قبل الناشئة.

ويعد تدشين الموسوعة العُمانية، الحدث الأبرز في معرض هذا العام، فقد طال انتظارنا لهذا الإصدار الذي يثري المكتبة العمانية، ويشكل جهدًا تستحقه عُمان الحضارة والتاريخ والمجد. جاءت الموسوعة - التي تقع في أحد عشر مجلداً ويصل عدد صفحاتها إلى أربعة آلاف صفحة من القطع الكبير - في طبعة فاخرة وتصميم أنيق، لفيض من المعلومات الدقيقة والموثقة وبلغة رشيقة سلسة بعيدًا عن الإطناب والبلاغة الكلاسيكية.

حظي هذا المشروع الوطني، بالمباركة السامية من حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم، مما يؤكد أهميّة الموسوعة في الفكر العُماني، وعملت اللجنة وبإشراف صاحب السمو السيّد هيثم بن طارق آل سعيد وزير التراث والثقافة، وجهد دؤوب من رئيس تحرير الموسوعة د. عبد الله بن ناصر الحراصي وفريق عمل من الأكاديميين والمترجمين والمختصين والمؤرخين والذين أبلوا بلاءً حسنا لتصلنا بهذا المحتوى الشامل والشكل الراقي، حيث تتسم الموسوعة بشمولية التناول، وتوازن الطرح بين الإنسان والتاريخ والبيئة العُمانية بكافة مكوّناتها، كما يجسد شعار الموسوعة - وهو رسم مأخوذ من نقش صخري يعود إلى عصور ما قبل الميلاد- عراقة الإنسان على هذه الأرض الطيبة.

هذا التكامل بين المضمون والشكل، يجعل من الصعب على متصفح الموسوعة أن يرفع عينيه عنها، وهذا ما اختبرته شخصيًا حيث جلست منكبًا عليها لساعات في متعة فكرية لا تضاهى.

وتعد الموسوعة العمانيّة من أهم الإنجازات الثقافية العمانية المعاصرة، وواحدة من أهم مكوّنات الطيف الثقافي العماني..

وننتظر أن تكون الموسوعة في متناول الجميع لتعم الفائدة منها، خاصة في المدارس والجامعات، ولابأس أن تعمم على المساجد والجمعيّات والمكتبات العامة لتكون مرجعًا أساسيًا يسهم في تعزيز معرفة الأجيال بحضارتها، وخاصة أنّ لبلادنا تاريخًا حضاريًا عريقًا يمتد إلى آلاف السنين قبل الميلاد، وظهرت عمان على مسرح التاريخ مبكرًا لتسهم وبفاعليّة في التبادل الحضاري والتجاري بين الشعوب.. كما كانت للعمانيين بصمات واضحة على التاريخ الإنساني عبر مختلف العصور لا سيما في العصر الإسلامي؛ حيث كان لهم إسهام مشهود في الفتوحات الإسلامية، ونشر رسالة التسامح والسلام حتى أصبحت في القرن التاسع عشر إمبراطورية مترامية الأطراف تمتد من موانئ الخليج العربي حتى مرافئ شرق إفريقيا.

وتتيح الموسوعة للنشء تعميق معرفتهم بتاريخهم وثقافتهم وحضارتهم، بما يعزز في دواخلهم معاني الانتماء.. ولا تقف رسالة الموسوعة عند ذلك، بل تمتد إلى العالم للتعريف بالمنجز الحضاري العماني، وهذا يتطلب في مرحلة لاحقة ترجمة الموسوعة إلى اللغات الحيّة والأكثر انتشارًا في العالم حتى تتاح فرصة الاطلاع عليها لأكبر عدد ممكن من القراء ومن مختلف الجنسيّات والخلفيات الثقافية للتعرّف أكثر على بلادنا.. تاريخًا تليدًا وحاضرًا مشرقًا ومستقبلا زاهرًا.

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك