حوادث بلا حدود

 

أثار حادث حافلة المدرسة الباكستانية، صدمة في المجتمع العماني، وأعاد إلى الواجهة نقاشات موسمية تتجدد مع كل حادث مأساوي يهز وجدان المجتمع، ويستفز مشاعره الإنسانية.. خاصة وأنّ الحادث الأخير والذي كان مسرحه أحد الطرق بالوطية في مسقط، قد راح ضحيته أطفال وناشئة في مقتبل العمر من طلبة المدارس..

نعم.. عادت إلى صدارة أحاديث المجالس ووسائل الإعلام، مآسي الحوادث المرورية، وفواجعها، على وقع هذا الحادث الكارثي للحافلة المدرسية..

وتضاف هذه الأحاديث إلى ما سبق وكُتب وقيل حول حوادث الطرق في بلادنا، والذي يُجمع على الخطر المحدق الذي تشكله هذه الحوادث، وتربصها بسلامة مرتادي الطرق، كما لا تغفل هذه الأحاديث في مجملها عن الإشادة بالجهود التي تبذل من مختلف الجهات الحكومية، وفي مقدمتها شرطة عمان السلطانية والعديد من منظمات المجتمع المدني..

ورغم الذي كُتب، إلا أنّ نزيف الطرق لم يتوقف، بل يزداد جريانه ليصبغ سواد الإسفلت بحمرة قانية، لتُهدر بذلك طاقات في عُمر العطاء والإنتاج، وتُستنزف موارد الوطن في علاج المصابين، ورعاية المُقعدِين جراء الإصابات في الحوادث المرورية ..

ومشكلة الحوادث المرورية ليست حكرًا على السلطنة، بل تتمدد باتّساع خريطة العالم، وهذا يستوجب جهدًا جماعيًا دوليًا، وتعاونًا من المنظمات الإقليمية والعالمية لإيجاد الحلول المناسبة للحد من الحوادث المرورية وتقليل أعداد الوفيات والإصابات الناجمة عنها.

وفي السلطنة، وبلغة الأرقام، وحديث الإحصائيات، نجد أن 12% من حوادث المرور تنتج عنها حالات وفاة، أي بمعدل تقريبي "وفاة واحدة لكل عشرة حوادث مرورية" وهذه النسبة مستقاة من الإحصائيات السنوية حتى نهاية نوفمبر 2013.

ومما يفجع الخواطر، أنه وخلال الأحد عشر شهرًا الأولى من العام المنصرم، شهدت شوارع السلطنة 6600 حادث مروري، نتج عنها 823 حالة وفاة و 9081 إصابة .. وهو عدد أقل إذا ما قورن بالعام الذي سبقه، حيث سجل فيه 7529 حادثاً مروريًا نتج عنها 1059 حالة وفاة و10737 إصابة خلال الفترة من يناير وحتى نهاية نوفمبر 2012، وتوضح الإحصائيات أن غالبية ضحايا حوادث المرور هم من الذكور بمعدل 702 حالة وفاة وبنسبة 85.3% مقابل 121 حالة وفاة للإناث وبنسبة 14.7% .

هذه الأرقام تعكس فداحة الخسائر الناتجة عن حوادث المرور، وتحتم ضرورة التفاعل الإيجابي من قبل الجميع مع هذه القضية للإسهام في الحد منها وتلافي تداعياتها السلبية ..

وهذا قطعًا لن يتأتى إلا عبر تكاتف مجتمعي، وتآزر مؤسساتي يعمل ابتداءً على التوصيف العلمي الدقيق لأبعاد المشكلة، ومن ثمّ تبني خطط منهجية للمعالجة تنطلق من قاعدة بث الوعي المروري أولاً ومن ثمّ تنطلق إلى آفاق الحل العلمي والعملي للمشكلة عبر الدراسات المستمرة عن مسببات الحوادث ووضع العلاجات اللازمة لها.

وهنا أعيد إلى الأذهان ومن باب التذكير، بعض ما تمخضت عنه ندوة السلامة المرورية التي عُقدت بتوجيهات سامية، من توصيات يمكن أن تشكل محور ارتكاز مهم في توجهنا لمعالجة مشكلة الحوادث المرورية، ومن هذه التوصيات: وضع إستراتيجية وطنية للسلامة المرورية لتوحيد الجهود ومواصلة العمل بمشاركة جميع المعنيين من أجل الحد من الحوادث المرورية، وإنشاء مركز وطني للإحصاءات والمعلومات ذات الصلة بالشأن المروري لتوفير معلومات شاملة، وتطوير وتكثيف التوعية المرورية بأساليب حديثة وفعّالة عن طريق استخدام الوسائل الإعلامية والتقنيات الحديثة الكفيلة بإيصالها لكافة شرائح المجتمع، وترسيخ مفهوم التربية المرورية في مناهج التعليم العام والخاص ومقررات الكليات والجامعات وذلك لتنشئة جيلٍ واعٍ وملتزم بقواعد وأنظمة المرور ويساهم بفعالية في نشر الوعي المروري، ودراسة وتقييم قوانين وأنظمة المرور ومراجعة العقوبات والعمل على تغليظها لردع مرتكبي المخالفات التي تشكل خطورة عليهم وعلى مستخدمي الطرق الآخرين، إضافة إلى فرض مزيد من الرقابة والضبط المروري يتناسب مع اتّساع شبكة الطرق وكثافة حركة السيارات، بما يكفل مأمونية الحركة المرورية وضبط السائقين المتهورين، والعمل على معالجة مواقع تكرار حوادث المرور بحلول هندسية فعّالة وفق المعايير والأنظمة الدولية.

ولخصوصية وضع سائقي الحافلات المدرسية، حيث إنهم مؤتمنون على أغلى ثروات الوطن من طلبة اليوم، بناة المستقبل، ينبغي أن توضع ضوابط جديدة خاصة لهؤلاء السائقين، تكفل بداية اختيار الأشخاص المناسبين لهذه المهمة، وتحديد أعمارهم ومن ذلك مثلاً تحديد حدٍ أدنى لعمر السائق بحيث لا يكون دون سن الأربعين ويمكن في هذا الصدد الاستفادة من المتقاعدين في مختلف المجالات.. بعيدًا عن الفئات الشبابية التي تميل بحكم فورة الشباب إلى التهور، مع إلزامهم بالامتثال للوائح معينة تمنع استخدام الهاتف النقال أثناء قيادة الحافلات حفاظًا على أرواح الطلبة وعلى سلامة مستخدمي الطريق الآخرين، خاصة بعد أن تحول برنامج "الواتس آب" إلى إدمان مرضي لدى فئة واسعة من الشباب بما فيهم بالطبع شريحة السائقين. وكم استرعى انتباهي في الطرقات العامة شباب يقودون الحافلات المدرسية بتهورٍ ورعونة، يد على المقود وأخرى تلصق النقال بالأذن .. فمثل هؤلاء في حاجة إلى تكثيف جرعات التوعية، والخضوع إلى دورات تعليم قيادة منهجية بهدف تطوير قدراتهم في التعامل مع الطريق باتّزان وتعقل، استشعارًا للمسؤولية تجاه الطلبة الذين يقلونهم من وإلى المدارس، وقد يفيد إخضاعهم لاختبارات خاصة لتأهيلهم حتى يكونوا على قدر المسؤولية التي تفرضها قيادة حافلات ملأى بالأطفال.

لابد من الاستفادة من درس حادث حافلة المدرسة الباكستانية، في بلورة ضوابط حازمة وتطبيقها على سائقي الحافلات المدرسية، حتى نطمئن على أن فلذات أكبادنا في أيدٍ أمينة تحرص على إيصالهم إلى مدارسهم في أمن وسلام .

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك