الموازنة .. الإنجاز والتحدِّيات


حفلت الموازنة العامة للدولة لعام2014، بالكثير من الأخبار السّارة للمواطن العُماني، وحملت في طياتها وبين ثنايا أرقامها بشائر واعدة باستمرار الحراك التنموي، وإضافة المزيد من وقود الدفع لقاطرته حتى تمضي على السكة بثبات صوب تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية لمقابلة متطلبات التنمية بكافة أبعادها.. إنّ الموازنة الجديدة، والتي تعد الأضخم في غضون 43 سنة، تأتي استمراراً لما سبقها من ميزانيات، لجهة مواصلة وارتفاع أحجام الإنفاق، حيث درجت الميزانيات المتعاقبة على تسجيل ارتفاعات مُقدّرة لتلبية احتياجات التنمية المتزايدة عامًا بعد آخر.. وموازنة هذا العام التي تزيد بنسبة 5% مقارنة بعام 2013م، تتّسم بتركيزها وبشكل أساسي على تحسين المستوى المعيشي للمواطن والارتقاء بمهاراته ومستواه المعرفي والعلمي؛ من خلال تدعيم المؤسسات المعنية بالتعليم والصحة والتدريب والإسكان وإيلائها اهتمامًا كبيرًا ويعبر عن ذلك تخصيص اعتمادات مالية كبيرة للرفع من مستوى الخدمات المقدمة لتحقق أهدافها المرسومة لها.

ونظرة سريعة على أرقام الميزانية تُؤكد ذلك، فمثلاً استحوذ قطاع التعليم على 2.6 مليار ريال أي ما نسبته 18% من إجمالي الإنفاق العام، فيما اعتمد للصحة 1.3 مليار وبنسبة 9% من إجمالي الإنفاق. وخصص للإسكان 2.8 مليار ريال، تغطي كافة برامج المساعدات الإسكانية والقروض لبنك الإسكان العماني، علاوة على مبلغ 1.8 مليار ريال للدعم والإعفاءات وتشتمل على دعم فوائد القروض الإسكانية والتنموية ودعم الكهرباء والمياه والوقود وبعض السلع الأساسية.

إذن .. ومن واقع الأرقام يمكن القول إنّ الموازنة وازنت بين الحاجة إلى مواصلة خطى التنمية، والاستمرار في تحقيق أهداف التنمية الاجتماعية،وفقًا للخطط التنموية الخمسية.

كما إنّ الموازنة تستند إلى رصيد إيجابي من المُعطيات والتوقُعات ومن ذلك إرهاصات ارتفاع معدل النمو الحقيقي للاقتصاد الوطني إلى 5 بالمائة العام الماضي، والتوقعات بأن تظل هي نفس النسبة المتوقع تحقيقها خلال العام الحالي.

وكذلك الحال فيما يتعلّق بزيادة الأنشطة غير النفطية والتي من المتوقع أن ترتفع إلى أكثر من 7% في ميزانية هذا العام؛ مما يدل على أن هناك إمكانية حقيقية لتحفيز القطاعات الاقتصادية غير النفطية بما يحقق سياسات التنويع الاقتصادي وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر أساسي للدخل.. وأيضًا المحافظة على معدلات منخفضة نسبيًا للتضخم، يعد أمرًا إيجابيًا في ظل ما يشهده العالم من ارتفاع لأسعار المستهلكين بوتيرة متسارعة.. ويمكن الإشارة إلى الائتمان المصرفي العالي للبنوك التجارية والذي يربو على 15 مليار ريال حتى نهاية أكتوبر الماضي.

أقول: إنّ كل هذه المؤشرات الإيجابية يمكن أن تدفع بالقطاعات الاقتصادية في طريق تحقيق الأهداف المرسومة لها في الميزانية، ولكن تبرز جملة من التحديات التي ينبغي التعامل معها بما تستحق من اهتمام وتحليل بُغية وضع المعالجات الضرورية لها، حتى لا تتراكم ونفاجأ بها وقد تحولت إلى إشكاليات تعوق تحقيق أهداف التنمية، ويصعب معالجتها.. ويمكن أن نقف هنا على نماذج من تلك التحديات، وفي مقدمتها الارتفاع في وتيرة الإنفاق وباضطراد كبير دون أن يقابل ذلك زيادة في الموارد، ومع ثبات الدخل المعتمد أساسًا على أسعار النفط التي لا يمكن التكهن بمآلاتها لاعتمادها على عوامل خارجية، لا نستطيع التحكم فيها.

إننا أمام أحد خيارين فيما يتعلّق بالإنفاق العام: إمّا الحد من الإنفاق العام، وهذا يتطلب معالجات قد تكون قاسية من شاكلة زيادة الضرائب ورفع الدعم وتقليص مشاريع التنمية وتأجيل بعضها وغير ذلك من الإجراءات والتدابير التي لا تحظى في الغالب بالرضا الشعبي..والخيار الثاني يتمثل بالاستمرار في الوتيرة الحالية من الإنفاق العام وهذا يستلزم تفعيل القطاعات الاقتصادية الأخرى لتضخ مداخيل إضافية في الناتج القومي، بما يحفظ التوازن بين الإنفاق والدخل..

ويعد التنويع الاقتصادي الحل لمشكلة أحادية مصدر الدخل، ورغم أننا بدأنا الحديث عن التنويع مبكراً، إلا أنّنا لم نحقق الكثير في تحفيز القطاعات الاقتصادية المختلفة وغير النفطية.. وقد يرجع ذلك إلى استمرار ارتفاع أسعار النفط وطغيانه على القطاعات الأخرى، إلا أننا نعلم جيداً أن الاعتمادية العالية على سلعة واحدة أمر في غاية الخطورة ويجعل اقتصادنا عرضة للتذبذب والتأرجح والاحتمالات غير اليقينية.

لازلنا نعتمد على النفط بشكل رئيسي في اقتصادنا، ولا تلوح في الأفق بادرة الانعتاق من الاقتصاد الريعي، رغم أن لنا موارد واعدة في مختلف القطاعات، كالسياحة والصناعة والاتصالات والخدمات اللوجستية، وهي قطاعات مدعومة طبيعيًا بحكم الموقع الإستراتيجي لعمان، والاستقرار والأمان والسمعة الطيبة لهذه البلاد، وهي جميعها مُفردات قابلة للصرّف في أسواق الاستثمار العالمية.. وعلى الرغم من أنّ الموازنة الحالية خصصت مبلغ 3.2 مليار ريال للمصروفات الاستثمارية، إلا أنّنا يجب أن نتساءل عن الجدوى الاقتصادية لهذه المشروعات، وكيف يمكن أن تخدم إستراتيجية التنويع الاقتصادي، حيث إنّ مسألة العائد على الاستثمار من الأمور الأساسية في الجدوى الاقتصادية وتعزيز القيمة المضافة لكل ريال يتم استثماره في مختلف المشروعات.

وبحديثنا عن واقع التنويع الاقتصادي، نجد أن القطاع الخاص العماني وبشكل عام يُعاني من نقاط ضعفٍ عديدة ينبغي الوقوف عليها ومُعالجتها، حتى يقوم بدوره المأمول في إنجاح سياسات التنويع، ورغم أننا نتفق مع الوزير المسؤول عن الشؤون المالية فيما ذهب إليه من أن دور الحكومة الحقيقي توفير البنية الأساسية والإطار التشريعي والدعم اللازم للقطاع الخاص لتسهيل عمله، إلا أنّنا نرى ضرورة اتّخاذ المزيد من الخطوات على صعيد تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص ضمن أُسس وخطط إستراتيجية لتعزيز وتمكين القطاع الخاص العماني ليقوم بدوره كاملاً.

ولو تأملنا دور القطاع الخاص بشكل عام، نجد أنّ معظمه يندرج في إطار الاقتصاد الريعي والورقي وليس الإنتاجي، حيث إنّ غالبية أصحاب الأعمال يحصرون نشاطهم في مجال الوكالات التجارية والاستيراد السلعي، مما يعمق الاعتماد على الخارج في معظم الأحيان، في الوقت الذي ينبغي أن يسعى القطاع الخاص إلى توطين العديد من الصناعات التي نستوردها حاليًا من الخارج، الأمر الذي يعني المزيد من استنزاف الموارد. فيما لو قامت هذه الصناعات في الداخل ستتحول إلى جاذب للعملات الصعبة وبالتالي ترفد الاقتصاد الوطني بالقوة والمتانة.

وحتى في الأنشطة التي تعتمد على الاستيراد، نجد أن القطاع الخاص العماني يتراجع مفسحًا المجال للاعبين قادمين وراء الحدود خاصة من الدول الخليجية ويتّضح ذلك جليًا في المجمعات التجارية الكبيرة التي تحسب في عداد الاستثمارات الأجنبية، إضافة إلى أنشطة بيع المواد الغذائية ويقف شاهدًا عليها "اللولو " و"كارفور" و"سلطان ".

ويستلزم مبدأ الشراكة الحقيقية، أن تعمد الحكومة إلى تذليل التحديات التي تواجه القطاع الخاص العامل في القطاعات الإنتاجية، في ظل انسحاب العديد من رجال الأعمال منه إلى الاقتصاد الورقي مثل المتاجرة بالأوراق المالية والعقارات كونها توفر العديد من المخاطر الإدارية إلا أنّها تحد من مساهمة القطاع الخاص في أن يشكل قيمة مضافة للاقتصاد الوطني . ومن المشكلات التي تقعد بالقطاع الخاص، وتعوق مسيرة نموه، بروز بعض الظواهر السلبية كالاحتكار والتجارة المستترة والفساد، فمن صور الاحتكار القاتمة أن بعض شركات المقاولات التي تعد على أصابع اليد الواحدة تستحوذ على تنفيذ كافة المشروعات الحكومية، وهذه المشكلات يجب الحد منها لخلق بيئة صحية لنمو القطاع الخاص العماني بشكل أفقي وعمودي، حتى يقوم بدوره المرتجى في التنويع الاقتصادي ..

إنّ التوجه الحكومي نحو دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، يعد تحركًا إيجابيًا لإعطاء هوية جديدة للقطاع الخاص العماني. إلا أنه ينبغي إعداد الخطط والإستراتيجيات لوضع هذه الشريحة ضمن خطوط إنتاجية حتى لا تكون أسيرة النموذج الاستهلاكي . لأن طغيان هذا النموذج على أنشطة هذه المؤسسات، يضعف التركيز على الجوانب الإنتاجية القادرة على تحقيق نموذج الاستدامة وبناء اقتصاد متين يقوم على التنويع الاقتصادي ..وننتظر أن يدرج ذلك ضمن الرؤية الإستراتيجية "عمان2040 " خاصة وأننا في مراحل بلورة الآراء لصياغة هذه الإستراتيجية التي نأمل أن تشكل نقلة نوعية على صعيد تحفيز قطاعات وخلق كيانات إنتاجية قادرة على تحقيق قيمة مضافة للاقتصاد الوطني والاستفادة القصوى من الثروة النفطية في بناء صناعات مصاحبة ومساندة بشكل أكثر كفاءة يساعدها في دعم الاقتصاد الوطني بعناصر الاستدامة .

ويعول كذلك على القطاع الخاص العماني وعلى المديين القريب والمتوسط، في خلق وظائف جديدة تواكب الزيادة المتوقعة في أعداد الباحثين عن عمل، وهذا لن يتأتى إلا بإعادة تشكيل هذا القطاع، واستيعابه ضمن مخطط شامل يندرج تحت إستراتيجية أشمل للتنويع الاقتصادي.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك