كمن يدُس السمَّ في العسل!

ليس من قبيل الصدفة أن تنشر صحيفة "واشنطن بوست"، قبل أيام، تقريرًا يصنِّف طُرُقات السلطنة ضمن الدول العشرة الأكثر خطورة، وليس من قبيل الصدفة أيضًا أن يدعو صندوق النقد الدولي، قبل أيام، لخفض الإنفاق العام، والانضباط المالي في محاولة لرسم صورة قاتمة للاقتصاد العُماني.

ولن يكون من باب الصُّدفة -كذلك- أن تنشر "نيويورك تايمز"، الأسبوع المُقبل -مثلاً- تقريراً عن بلادنا؛ بهدف التأجيج غير المُعلن، والتأثير في شريحة الشباب.

وأنا على يقينٍ أن هناك الكثيرَ من التقارير المشبوهة التي يُجرى "طبخها"، والإعداد لها، ومن ثم تسريبها للنشر في الأشهر المقبلة، وما رأيناه لا يعدو إلا أن يكونَ مقدِّمات لسيناريوهات قادمة، لا نعلم على وجه الدقة ماهيَّتها، ولكننا نكاد نجزم بأن "وراء الأكمَّة ما وراءها"!!

فقد علَّمنا التاريخ أن المؤسَّسات الإعلاميَّة الغربيَّة -وفي مقدمتها: الأمريكيَّة- تعمل وفق خطط بعيدة المدى، وتستند إلى دراسات واستراتيجيَّات تهدف إلى تحقيق جُملة من الأهداف المرسومة مسبقاً، وهي أهدافٌ لا تقوم على الخيريَّة المُطلقة، أو حُسن النوايا، وإنما تراعي -مبتدأً وخاتمةً- مصالحها المرتبطة بالاحتكارات العالميَّة، ولا تلقي بالًا للشعارات البرَّاقة التي تحاولُ تسويقَ سياساتها الإعلاميَّة بها من شاكلة البحث عن الحقيقة والشفافية..وغيرها من كليشيهات للاستهلاك العام!

ونعود إلى تقرير "واشنطن بوست" عن طُرُق السلطنة.. ودعونا نتساءل بافتراض براءة سياق التقرير من شبهة الغرض، وتنزُّهه عن الهوى: لماذا تعمَّد التقرير اعتمادَ أسلوبِ التعميم في إطلاق التوصيفات، رغم إدراك الصحافة الأمريكيَّة -وفي مقدمتها الصحيفة التي نشرت التقرير- أنه مسلكٌ مشبوهٌ في المعالجات الصحفيَّة يُخرجها عن السياق المُحدَّد للموضوع، إلى عموميَّات وفرضيَّات تثير البلبة في أذهان القرَّاء، وتُبعدهم عن حقيقة الموضوع؟

قد يقولُ قائلٌ: إن الصحيفة استندت إلى أرقام الحوادث المروريَّة، مقارنة بعدد السكان، ولكن هل يصلحُ هذا لإطلاق تعميم مُطلق عن رداءة طرق السلطنة؛ متضمنًا التصميم، وناسفًا جهودَ تأسيس البنية الأساسيَّة لهذه الشبكة العملاقة من الطُرُقات التي تمتد من خصب إلى ضلكوت؟

... إن الطرق في بلادنا من الإنجازات اللافتة عبر مسيرة النهضة؛ حيث إنه ورغم صعوبة تضاريس عُمان، والتي تتنوَّع بين الجبال والصحاري والأودية والسهول، أنشئت شبكةٌ من الطرق المُسفلتة بأطوال تتجاوز في إجماليها الـ30 ألف كيلومتر لربط محافظات السلطنة بعضها بعضًا، وربط السلطنة بالدول المجاورة بشبكة من الطرق التي تتسم بأحدث المواصفات القياسيَّة للطرق والجسور، والتي تتلاءم مع الطبيعة الجغرافيَّة للسلطنة.

ويَغيبُ عن ذهن "واشنطن بوست"، أن شبكة الطرق في عُمان، مصدرُ اعتزازٍ وفخرٍ للعُمانيين جميعهم بلا استثناء، وأول ما يلفتُ نظر الزائر إلى السلطنة -بعد كرم وأريحيَّة شعبها- شبكة الطرق الحديثة المُمتدة عبر الجبال والسهول والأودية؛ لتشكل شرايين للتنمية، وعروقاً للتواصل.

والشهادات على جودة الطرق العُمانيَّة -تصميمًا، وتنفيذا، وانتشارًا- ليست من أهل عُمان فحسب، بل شهد العالم بذلك من خلال تقرير التنافسيَّة العالمي للعام الماضي؛ حيث حازت السلطنة على المركز الخامس عالميًّا في مستوى جودة الطرق حسب التصنيفات الأخيرة للمُنتدى الاقتصادي العالمي. ونالت مجموع 6.4 في تصنيفات مؤشر التنافسيَّة العالمي، الصادر عن المنتدى؛ ليكون ترتيبها الخامس من بين 142 دولة شملها التصنيف، وهو دليل -لا يرقى إليه الشك- على جودة تصميم شبكة الطرق في السلطنة وتنفيذها بمواصفات عالميَّة.

ودحضًا لافتراءات "واشنطن بوست"، أستطيع القول بأنه ومن واقع تجربتي في السفر، والتي زرتُ خلالها أكثر من مائة دولة في العالم -من المكسيك، وحتى النرويج، والسويد، مرورًا بالهند، وباكستان، وتركيا، ولبنان، والمغرب العربي- لم أجد طرقاً تضاهي ما تتمتع به عُمان، أو على الأقل لا تقل عنها في جودة التصميم، ومطابقة المواصفات العالميَّة.

كما أنه -ومن واقع المعايشة لمدينة نيويورك، ولفترة تزيد على السبع سنوات- فقد شهدت من الحوادث ما يشيبُ له الولدان، ليس على صعيد الحوادث المروريَّة فحسب، بل القتل العشوائي والجزافي الذي يحصد ضحايا بالمئات سنويًّا، إن لم يكن آلافًا، وكل ذلك على الطرقات.

وشهدتُ بأمَّ عيني العديد من حوادث القتل، وفي وضح النهار، بالمسدَّسات والسيوف والسكاكين، وهذه الحوادث تشكل مشهدًا يوميًّا -وقطعًا ليس هناك مجال للمقارنة في هذا الصدد بين شوارع نيويورك وشوارع مسقط!!

أوبعد كل هذه الحقائق التي تدركها "واشنطن بوست" أكثر من غيرها، تُدرج شوارعنا على قائمة الأسوأ عالميًّا؟

.. لجأت "واشنطن بوست" إلى أسلوب دس السم في العسل؛ حتى يبدو خطابُها الإعلامي منطقيًّا؛ من خلال اجتزاء تفصيل مُعيَّن، وهو: الحوادث المروريَّة، وبناء فرضيَّتها عليه؛ لتصل إلى نتيجة خاطئة -جملةً وتفصيلاً- وهي أن شوارع السلطنة من أخطر عشرة شوارع في العالم!!

أمَّا ازدياد حوادث الطرق، فهو "ظاهرة عالميَّة"؛ تشكو منها دول العالم أجمع، وليست حكرًا على السلطنة التي تسعى جاهدة للسيطرة على معدلاتها، وتسهم في النقاشات الجادة على مستوى الأمم المتحدة للحد من المشكلة.

وللأسف؛ يتلقفُ شبابُنا مثل هذه التقارير الواردة من الغرب، ويعمل على ترويجها عبر شبكات التواصل الاجتماعي؛ باعتبارها من المسلَّمات، وكأنها حقيقة مُطلقة دونما أدنى تحفُّظ، ويبنون عليها مواقف سلبيَّة، بل البعض يذهب إلى الدفاع عنها حتى وإن تبين له مجافاتها للحقيقة. والغريب في الأمر أنهم يتصدون لكل من يحاول توضيح الصورة لهم، بكلمات عنيفة، ونقد جارح، ويلقون بالتهم الجزافيَّة بحقه.

... ما أود أن أخلص إليه أن الكثيرَ من التقارير التي تُنشر في الصحف الغربيَّة عن عالمنا العربي بشكل عام؛ هي تقارير مشبوهة، أو على الأقل ليست بريئة تمامًا في أطروحاتها، والتوقيت الذي تطلق فيه.

ونحتاج فعلاً إلى تحصين الهويَّة الوطنيَّة بالوعي وتقوية الخطاب الإعلامي، وعدم السكوت عنها؛ لأنها تبث أحياناً سمومًا مُهلكة، تجد لها آذانًا صاغية في أوساط الشباب، غير مُدركين لمآربها الخفيَّة.

... إن ما يدَّعيه الإعلام الغربي من موضوعيَّة وحيدة ونزاهة، خرافة وكذبة كبرى؛ فهو منحاز -وبشدة- إلى المصالح التي يُمثلها؛ وهو جزءٌ من هذه الآليَّات التي تسعى إلى الهيمنة والسيطرة على العالم. والنماذج على ذلك أكثر من أن تُحصى، ولكن -وللتذكير فقط- نستدعي منها: تبنِّى الإعلام الغربي لـ" شيطنة صدام حسين" وامتلاكه أسلحة دمار شامل بعد ثلاث عشرة سنة من الحصار المدمر. والجميع يعلم أنها كانت أكاذيب لتبرير سيناريو الحرب المقرَّرة سلفاً. وخرافة المفاعل النووي الإيراني واستخدامه العسكري، إلى القذافي، واليوم سوريا، وغداً الجزيرة العربيَّة.. وما خفي كان أعظم.

... الإعلام الغربي يعمل ضمن أجندات واستراتيجيَّات ومراكز بحوث واستخبارات، بل إن وزير الخارجيَّة البريطاني يُخصص كلَّ يوم ساعة من برنامجه اليومي للالتقاء برؤساء التحرير للتنسيق والتفاهم!

ومن الطرائف التي لا أنساها، ما صرَّح به أحد السياسيِّين الإسرائيليِّين منذ أكثر من عشر سنوات بما معناه: "لو أراد عرفات القضاء على إسرائيل، يكفي أن يهدي لكل منهم سيَّارة ليقتلوا بعضهم البعض على الطرقات".

ورغم أنه شهد شاهدٌ من أهلها، إلا أن "واشنطن بوست" تصرُّ على إضفاء لقب لإسرائيل باعتبار من الدول العشرة الأكثر أماناً في طرقاتها. وهي بالطبع مجاملة مكشوفة للحليف، ومحاولة بائسة لتلميع صورته ولو بالكذب الصريح!

... إن الكثير من التقارير الغربيَّة هي كمن يدس السم في العسل، ولنا أن نتساءل: لماذا علينا أن نتجرع هذا السم في كل مرة يُقدم لنا فيها؟ إن هذه التقارير تصدر عن مراكز للدراسات والبحوث ترتبط بمصالح تجاريَّة كبرى كصناعة الأسلحة والأدوية والاتصالات التي تصرف مئات الملايين، إن لم تكن المليارات، لتسويق أفكار ترعى هذه المصالح لتضاعف من ثرواتها.

ولا ندري طبيعة الإملاءات التي حتَّمت على "واشنطن بوست" إصدار هذه الأحكام غير الصحيحة بحق طرق السلطنة، إلا أن ثمَّة أجندات خفيَّة ستبين ملامحُها في المستقبل.

هل تساءلنا مرة: لماذا تصرف الدول الغربيَّة، وغيرها، مئات الملايين من الدولارات سنويًّا على إعلامها الناطق بالعربيَّة من إذاعة وتليفزيون، وإعلام مطبوع؟ بل إنها تزيد عاماً بعد آخر من حجم الميزانيَّات المرصودة لهذا النشاط على الرغم من التقشف في المجالات الأخرى؟ فهناك: بي.بي.سي، والحرة، والفرنسيَّة، والأوروبيَّة وروسيا اليوم.. كلها تنتمي لسياسة واضحة تتعلق بالهيمنة الثقافيَّة والفكريَّة؛ توطئة للتبعيَّة وسلب الإرادة؛ من خلال قلب الحقائق، و"فبركة الأخبار"؛ لتشكيل رأي عام مُوالٍ لها في عالمنا العربي، والتأثير عليه بشكل مباشر.

وينبغي أن ندرك أن الإعلام أصبح قوَّة فاعلة في ساحة الصراعات الفكريَّة والعسكريَّة، وأن كَسْب المعركة إعلاميًّا هو نصف الطريق إلى النصر النهائي والظفر بالحرب.

وللأسف.. لا يزال إعلامُنا العُماني محدودَ الإمكانيَّات، وغير قادر على المنافسة وتولي زمام المبادرة. ولا يزال تأثيره ضعيفاً، ولابد من دعمه بقوَّة، من خلال مضاعفة الاستثمارات فيه؛ ليقوم بالدور المُرتجَى منه كاملاً، خاصة فيما يتعلق بالتصدي للحملات المشبوهة التي ترمي إلى النيل من مكانة عُمان، أو زعزعة ثقتها في مُنجزاتها الحضاريَّة والتنمويَّة.

وإعلامُنا مُطالب -كذلك- بتعزيز قدراته على الرد والتصدِّي للأكاذيب والفبركات التي تسيء إلى بلادنا. نعم لدينا بعض التقصير والهفوات -وهذا أمرٌ طبيعيٌّ في أي مسيرة إنسانيَّة وتنمويَّة- ولكن لا ينبغي التأسيس على ذلك، واتخاذه مبررًا لجلد الذات واستمرائه بشكل "مازوشي"، مع كل خبر مُلفق أو تقرير مشبوه يرد عنا في وسيلة إعلام غربيَّة!

... نحتاج إلى تقوية الصوت الإعلامي العُماني، في تدعيم التفكير الإيجابي بين المواطنين؛ من خلال استراتيجيَّة إعلاميَّة نسير عليها وندافع من خلالها على ثوابتنا، وتجعلنا نستطيع التميز -وبسهولة- بين النقد البناء والاستهداف المشبوه، خاصة وأننا سنكون خلال المرحلة المقبلة مستهدفين بالكثير من التقارير التي تسعى إلى زعزعة الثقة في منجزنا الوطني؛ وبالتالي علينا العمل بقوَّة على تحصين الهويَّة الوطنيَّة بالوعي وتقوية الخطاب الإعلامي، وعدم السكوت عنها؛ لأنها تبيض وتفرخ وتنمو في أجواء التجاهل وعدم الرد عليها.

تعليق عبر الفيس بوك