د. يحيى بن ربيع النهدي
منذ إنشاء مركز القبول الموحد، أصبح هذا المركز بوابة الطالب العُماني نحو تحديد مسيرته الأكاديمية، من خلال تنظيم عملية توزيع البعثات الداخلية والخارجية والمنح الدراسية بكل أنواعها؛ فقد جاء في إحدى الاختصاصات الأصيلة لهذا المركز كما أوردته لائحته التنظيمية أنَّه يهدفُ إلى "تنظيم عملية قبول والتحاق المتقدمين لمؤسسات التعليم العالي"، مُحدِّدًا بذلك مسارات آلاف الخريجين من مخرجات الدبلوم العام سنويًا، وفي نفس الوقت مُحقِّقًا قدرًا عاليًا من الشفافية والعدالة في توزيع هذه البعثات.
ففي نهاية كل عام دراسي، عندما تُعلن نتائج الدبلوم العام، وتبدأ عملية التسجيل وترتيب الرغبات في هذا النظام، غالبًا ما يكون لدى الطلاب المتفوقين أصحاب المعدلات الأعلى نظامٌ معروفٌ في ترتيب رغباتهم؛ حيث تكون البعثات في قمة أولوياتهم، تليها مباشرة جامعة السلطان قابوس لمكانتها العلمية المرموقة في السلطنة، ثم تتوزع بقية الخيارات على المؤسسات التعليمية الحكومية والخاصة الأخرى.
وليسمح لي القائمون على المركز بإبداء بعض الملاحظات التي عايشتُها خلال تدريسي في مؤسسات تعليمية جامعية، أنه وفي بعض الحالات– وهي محور حديثي في هذا المقال– يجد الطالبُ المتفوق نفسه في المسار الذي لا يتوافقُ مع طموحاته المستقبلية، وميوله التعليمية، نتيجة وقوعه في مصيدة "الاختيار الخطأ" عند ترتيب رغباته في النظام؛ فيجد نفسه مقبولًا في مؤسسة تعليمية قد لا تكون هي التي طمح لأن يحصل على كرسيِّ فيها، وفي تخصِّصٍ لا يتوافق مع قدراته العلمية الحقيقية ولا يعكس أحلامه وطموحاته؛ لتصبح هذه الأحلام والطموحات من نسج الخيال.
يتكرر هذا الحالُ المؤلم كلَّ عام، ليثير تساؤلًا فيما إن كان الخلل في نظام القبول الموحَّد بآلياته المعقَّدة– كما يراه البعض- والتي تضع الطالب في حيرة من أمره بين الخيارات المتعددة؟ أم أنَّ المشكلة تكمن في عدم وجود الإدراك الوافي لدى الطالب وأسرته في آلية ترتيب الرغبات بالنظام؟ لكن وإن تعددت الأسباب فالنتيجة واحدة: تفوُّق يتبدَّد في منظومة بٌنيت أساسًا من أجل تنظيم عملية قبول والتحاق المتقدمين لمؤسسات التعليم العالي من خرجات الثانوية العامة وفقًا لرغباتهم وميولهم الدراسية، وبما يتناسب مع معدلاتهم الحاصلين عليها في الدبلوم العام!
وهنا أضربُ على ذلك مثالًا من هذه الحالات؛ إذ روَتْ لي طالبة من خريِّجات الدبلوم العام لهذا العام الدراسي، حصلت على نسبة 94% في المسار العلمي، وهذه النسبة كانت كافية لتحقيق حلمها بالالتحاق بإحدى التخصصات التي كانت تطمح بها، لكن ولنقص المعرفة لدى هذه الطالبة وأسرتها في ترتيب رغباتها في النظام، وجدت نفسها اليوم في مؤسسة تعليمية خاصة، تدرس تخصُّصًا لا تجدُ فيه نفسها، ولا ترغب به، ولم يكن يومًا في حسبانها، وهو تخصُّصٌ متاحٌ بكثرة في مؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة، ولا يتطلب معدلًا مرتفعًا، إضافةً إلى أن سوق العمل قد تشبَّع من حملة شهادة البكالوريوس في هذا التخصُّص! وبالتالي فرصة توظيف هذه الطالبة المتميزة قد تكون ضئيلة مقارنة بأقرانها الطلبة أصحاب المعدلات العالية واللذين أحسنوا اختيار رغباتهم والتحقوا بتخصُّصات تلبِّي أحلامهم وطموحاتهم. تعيش هذه الطالبة حاليًا حالة من الإحباط العميق، لتبدِّد حلمها وذهاب جهدها الذي بذلته في الصف الثاني عشر أدراج الرياح.
وفي حالة أخرى، وخلال بعض محاضراتي في إحدى المؤسسات التعليمية التي كنت أعمل بها، كان من ضمن الطلبة، طالبة متفوقة في التحصيل الأكاديمي لكنني وجدتها غير مكترثة بالحضور أو المشاركة في قاعة التدريس، وكذلك غير مهتمة بتأدية المتطلبات التدريسية من واجبات وغيرها، ودفعني واجبي لمعرفة السبب في ذلك، وعندما سألتها، أجابت بمرارة "أنا محبطة يا أستاذ، لقد حصلت على معدل علمي مرتفع في الدبلوم العام، ولكن بسبب جهلي وجهل أسرتي في طريقة ترتيب رغباتي في القبول الموحد، قُبلت في هذا التخصص الذي لا أحبه ولا أراه مناسبًا لي"!
وهناك الكثير من الحالات الأخرى المماثلة التي لا يتسع المقام لسردها.
وبالتالي.. فإنه يتَّضح جليًا أن عملية ترتيب الرغبات في نظام القبول الموحد هي الفيصل في ضمان الحصول على البعثة أو المنحة الدراسية التي يطمح لها الطالب وتناسب ميوله ورغباته، ولهذا، فالمسؤولية الأساسية تقع على عاتق الطلاب وأسرهم في ضمان ترتيب الرغبات بالطريقة المُثلى لتجنب الوقوع في الاختيار الخاطيء، ولهذا الغرض، وُجِد "الدليل الإسترشادي" الذي يوفره مركز القبول الموحد سنويًا قبل البدء الفعلي في عملية ترتيب الرغبات.
هذا الدليل يعرض البرامج الدراسية التي تطرحها مؤسسات التعليم العالي، وشروط ومتطلبات التقدم لكل برنامج دراسي؛ فلكل برناج دراسي معدل تنافسي يعتمد على درجات جميع المواد الدراسية والمواد المطلوبة للبرنامج المحدد . فعلى الطالب التأكد عند التقدم لأي برنامج دراسي أنه مستوٍف لمتطلبات الالتحاق بهذا البرنامج من حيث المواد الدراسية المطلوبة، والدرجات في كل مادة؛ فعلى سبيل المثال، مادة الأحياء من ضمن المتطلبات الأساسية لبرنامج الطب؛ إذ منطقيًا أن لا يتقدم الطالب لدراسة الطب ما لم تكن مادة الأحياء ضمن المواد التي درسها في الثانوية العامة، لعدم إستيفاءه الحد الأدنى لشروط المنافسة على برنامج الطب وهو في هذه الحالة مادة الأحياء. (الدليل الاسترشادي لنظام القبول الموحد 2024- 2025).
ولو سخَّرَ الطالب وقتًا كافيًا في معرفة ما يحويه هذا الدليل وشاركه أسرته، أو إستشار من ذوي الخبرة في هذا الشأن، مثلًا "أخصائي التوجيه المهني" في المدرسة، لكانت فرص الخطأ أقل ولتجَنَّب هؤلاء الطلبة الوقوع في مصيدة "الأختيار الخطأ". خاصة وإن النظام يوفر "خدمة لمن أساء الاختيار" تتيح للطالب المجال للتقديم مرة أخرى بعد إنتهاء فترة التسجيل في الفرز الأول.
إضافةً إلى أهمية وعي الطالب بآلية ترتيب الرغبات في النظام، كذلك، فإن دور مركز القبول الموحد لا يجب أن يتوقَّف بمجرد إعلان النتائج، فهناك حالات استثنائية تستحق إعادة النظر فيها لإنصافها، خاصة هؤلاء الطلاب المتفوقين الذين ضاعت فرصهم بسبب نقصٍ في التوجيه أو خطأٍ غير مقصود.
إنهم يستحقون أن يُعاد النظر في وضعهم بعين الاعتبار والتقدير؛ فليس من الصالح العام أن يوجَّه طالبٌ إلى غير وجهته الملائمة لاستكمال دراسته بسبب خطأٍ في اختيار الأولويات، لعدم خبرته الكافية في ذلك، أو أنه لم يجد من يوجهه في الوقت المناسب.
وهنا يبرُز دور القائمين على مركز القبول الموحد في تبني مبادرات للدعم والاستدراك، مثل التواصل المباشر مع الحالات المتميزة اللذين وُجدت نتائجهم في الفرز التجريبي لا تتناسب مع نسبهم في الفصل الأول من الدبلوم العام، وإرشادهم نحو الطريقة المُثلى لترتيب رغباتهم في النظام قبل بدء مرحلة "تعديل الرغبات" التي تتيح للطالب تغيير الخيارات او إضافة خيارات جديدة.
إنَّ هذه الخطوة، لو حدثت، لن نجد حالات كمثل التي ذكرتها في هذا المقال، وهي بلا شك ستعزِّز الأهداف التي قام عليها مركز القبول الموحَّد لتؤكد أن غاية هذا النظام ليس مجرد التوزيع الإداري للبعثات والمنح الدراسية؛ بل هو تحديد الوجهات الصحيحة لمستحقيها قبل كل شيء.
** خبير أكاديمي
