صالح بن ناصر بن سيف الغافري
﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، بهذه الآية الكريمة من سورة هود، تتجلى حكمة الله في خلق الإنسان؛ إذ جعله خليفة في الأرض، مأمورًا بالإعمار، مسؤولًا عن النهوض، ومكلفًا ببناء الحضارة. لم يكن وجودنا عبثًا، بل لحكمةٍ عظيمة تتجلى في إعمار الأرض وبناء الإنسان. ومن هذا المنطلق، فإن كل فعلٍ يسهم في تحسين حياة الناس، وتمكينهم، ورفع الظلم عنهم، هو عبادةٌ وعملٌ صالحٌ يُثاب عليه، ويُخلّد أثره في الدنيا والآخرة.
وفي زمنٍ تتزايد فيه معدلات البطالة، وتتسع فيه رقعة الفقر، وتُسرّح فيه الطاقات البشرية من مواقع الإنتاج، لا بد من وقفة جادة تعيد ترتيب الأولويات ولأننا نؤمن أن الأزمات ليست نهاية الطريق، بل هي شرارة الانطلاق نحو التغيير وإيجاد الحلول، هنا يأتي الاستثمار المجتمعي كأداة فاعلة، لا تُقاس فقط بالأرباح؛ بل تُقاس بالأثر، بالكرامة، وبالقدرة على تحويل الإنسان من متلقٍ إلى منتج، ومن مهمّش إلى فاعل.
إن الاستثمار المجتمعي ليس ترفًا اجتماعيًا، ولا مجرد نشاط دعائي للشركات، بل هو أحد أهم أدوات التنمية المستدامة، وأهم الأدوات الحقيقية لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس أنفعهم للناس"، وهذا الحديث الشريف يجب أن يكون نبراسًا لكل مسؤول، وكل صاحب قرار، وكل مؤسسة تملك القدرة على التأثير. فالمسؤولية اليوم ليست فقط في سنّ القوانين، بل في صناعة الفرص، وفتح الأبواب، وتمكين الطاقات الكامنة في شباب هذا الوطن.
وهنا نرفع نداءً صريحًا: نريد من أصحاب القرار أن يبحثوا فعلاً عن الشراكات المجتمعية بمفهومها الصحيح، بعيدًا عن الهالة الإعلامية، وبما يحقق الأهداف الحقيقية في سبيل التنمية وكرامة المواطن. فالمجتمع لا يحتاج إلى صور احتفالية، بل إلى مشاريع حقيقية تُحدث فرقًا في حياة الناس.
لقد رسم السلطان قابوس بن سعيد- رحمه الله- ملامح الدولة العصرية، وأكد أن بناء الإنسان هو أساس التنمية، وقال في إحدى خطبه: "إننا نؤمن بأن الإنسان هو محور التنمية وغايتها". واليوم، يواصل حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- أيده الله- في عهده الزاهر هذا النهج، ويقود رؤية "عُمان 2040" التي تضع الإنسان في قلب التحول، وتفتح آفاقًا واسعة للابتكار، والريادة، والعمل المجتمعي.
والاستثمار المجتمعي يحقق فوائد عظيمة على الفرد والدولة؛ فعلى مستوى الفرد، يمنحه فرصة للتمكين الاقتصادي، ويخرجه من دائرة الاعتماد إلى دائرة الإنتاج، ويعزز ثقته بنفسه ومكانته في المجتمع. أما على مستوى الدولة، فهو يخفف العبء على الميزانية العامة، ويقلل من معدلات البطالة، ويعزز الاستقرار الاجتماعي، ويخلق بيئة تنموية متكاملة تُسهم في تحقيق أهداف الرؤية الوطنية.
لذا يجب أن يتحول الاستثمار المجتمعي من مبادرات متناثرة إلى سياسة وطنية شاملة، تُحفّز القطاع الخاص، وتُشرك المجتمع المدني، وتُفعّل دور الشباب في قيادة المشاريع التنموية. يجب أن نرى في كل محافظة مركزًا للتدريب، وفي كل ولاية من ولايات السلطنة مشروعًا إنتاجيًا، وفي كل شاب فرصةً ليكون قائدًا لا عاطلًا
نحن بحاجة إلى سياسات حكومية محفزة، تمنح امتيازات ضريبية وتشريعية للمؤسسات التي تستثمر في المجتمع، وتُشرك القطاع الخاص والمجتمع المدني في تنفيذ مشاريع ذات أثر ملموس. كما نحتاج إلى إشراك المجتمع المحلي في تصميم وتنفيذ هذه المشاريع، لضمان ملاءمتها للواقع، واستدامتها.
هذه دعوة مفتوحة للحكومة، للمؤسسات، للرواد، وللشباب. دعوة للانطلاق، للبناء، وللإيمان بأن التغيير يبدأ من الإنسان. فلنحوّل الاستثمار المجتمعي إلى هبَّة وطنية، تُشعل الحماس، وتُعيد الأمل، وتُحقق الرؤية.
إنَّ رؤية "عُمان 2040" ليست مجرد وثيقة؛ بل هي وعدٌ بمستقبلٍ أفضل، فلنكن نحن من يحقق هذا الوعد، بسواعدنا، بعقولنا، وبإيماننا بأننا خُلقنا لنعمِّر الأرض، لا لننتظر من يُعمِّرها لنا.
