نساء آل سعيد.. حضورٌ في صميم الوعي العُماني

 

 

سلمى بنت سيف البطاشية

لم تكن المرأة في التاريخ العُماني هامشًا يزدان به المتن؛ بل كانت روحًا تنبض في عمق الحدث، وشريكًا فاعلًا في صناعة الوعي والحضارة. ومن بين صفحات هذا التاريخ الزاخر يبرز حضور نساء أسرة آل سعيد؛ بوصفه نموذجًا يجمع بين الحكمة والالتزام، وبين الأصالة والتجدد. لقد نشأن في بيئة حاضنة للقيم والعلم والسياسة، فكان أثرهن يتجاوز أسوار القصور ليصل إلى وجدان المجتمع العُماني بكل طبقاته.

ومن خلال أدوارهن التربوية والثقافية والإنسانية أسهمن في تشكيل ملامح الوعي الوطني ودعم النهضة التي شملت التعليم والعمل الاجتماعي والفكري. ولم يكن عطاؤهن علنيّا بالضرورة، بل اتخذ طابعا هادئا وفعّالا يعكس عمق المسؤولية وحسّ الانتماء للأسرة والوطن في آن واحد.

إنَّ تتبّع مسيرة نساء آل سعيد هو قراءة في الوجه الإنساني للقيادة، وفي البعد الثقافي الذي رافق مشروع الدولة الحديثة منذ بواكير النهضة؛ حيث التقت قيم الأسرة الحاكمة بمُثُل المجتمع العُماني لتصنعا معًا تجربة متفردة في التاريخ العربي الحديث.

وعلى امتداد التاريخ العُماني، لعبت نساء آل سعيد دورًا يتجاوز حدود الأسرة الحاكمة إلى المجتمع ككل؛ فقد كنّ شاهدات على تحولات وطنية مُهمة، وساهمن في تثبيت دعائم الاستقرار الاجتماعي والسياسي. كما كان لهنّ بصمة واضحة في الثقافة والتعليم والرعاية الإنسانية.

وتعد السيدة موزة نموذجًا مُبكرًا لحضور النساء في صميم الأحداث التاريخية بعُمان. فقد عاشت في فترة اتسمت بالتحديات السياسية والتحولات الداخلية، وبرز دورها بعد مقتل أخيها السيّد سلطان بن أحمد عندما قدّمت السيد سعيد بن سلطان للحكم على أخيه السيد سالم الأكبر سنّا. فقد رأت فيه الصفات التي تؤهله للقيادة، بخلاف أخيه الذي لم تكن له أطماع في الحكم.

وكان لها دور محوري في تسيير شؤون الدولة في تلك المرحلة الحرجة نظرًا لصغر سنّ السيد سعيد، ولاشتداد الأخطار الداخلية والخارجية التي كانت تهدد عُمان. فعندما قرر السيد سعيد الاستعانة بالسيد بدر بن سيف ضد عمه السيد قيس بن أحمد الذي زحف على مسقط وحاصرها، كان ذلك بناءً على رأي السيدة موزة التي كانت تهدف إلى ضرب المتنافسين على الحكم بعضهم ببعض.

وعندما تمكَّن السيد قيس بن أحمد من دخول مسقط والسيطرة على معظم مناطقها، طلبت السيدة موزة منه أن يتوقف عن حرب ابن أخيه السيد سعيد، فوافق وتم الصلح. ويظهر هذا الدور مدى حنكتها السياسية وقدرتها على التأثير في أهم مفاصل القرار.

السيدة خولة بنت سعيد: قال عنها مؤلف كتاب "البوسعيديون حكام زنجبار"، كانت السيدة خولة تتمتع بتقدير أبيها بسبب كفاءتها الإدارية لشؤون البيت، ولهذا ترك لها تنظيم بيت الساحل بعد وفاة أمها، وكانت تنفرد بمسؤولية هذا البيت."

وبعد وفاة والدها انضمت إلى جانب السيد برغش ضد السيد ماجد، وبذلت كل ما في وسعها للإطاحة به، وساندت السيد برغش في معركة ميشو بما تملك من نفوذ وشجاعة.

السيدة سالمة بنت سعيد: تعد السيدة سالمة أحد أبرز الوجوه النسائية في أسرة آل سعيد، فقد تجاوزت دورها كأميرة إلى فضاء الثقافة والتوثيق. وقدّمت عبر كتابها الشهير "مذكرات أميرة عربية" وثيقة إنسانية وتاريخية تعكس الحياة العُمانية في زنجبار آنذاك.

روت ذكرياتها في بيت المتوني، ووصفت الحياة اليومية، والعلاقات داخل القصر، ورحلة والدها الأخيرة إلى عُمان، وأجواء الحزن بعد وفاته. كما تحدثت عن مكانة المرأة في الشرق، وعادات الزواج، وزيارات النساء، قبل أن تنتقل للعيش في ألمانيا؛ حيث رصدت الفوارق الثقافية والاجتماعية والإنسانية بين العالمين.

وكتبت مذكراتها باللغة الألمانية لتترك لأبنائها سجلا عن جذورها العربية العُمانية، فكانت بذلك جسرا ثقافيا بين الشرق والغرب.

السيدة خولة بنت حمود بن أحمد: حملت نساء آل سعيد عبر العصور دورا يتجاوز بروتوكولات القصور، وبرز جانبهن الوقفي والعلمي بشكل واضح. فقد عرفت السيدة خولة بمبادرتها إلى وقف جزء من أموالها لصالح أهل العلم، دعمًا للمدارس وطلاب الفقه والفقراء والأيتام. وكانت تبحث عن أمكنة مناسبة لشرائها وتحويلها إلى أوقاف، في موقف يعكس رقيّ الوعي وعمق الإيمان بأهمية العلم والمعرفة في بناء الدولة والمجتمع.

السيدة الجليلة ميزون بنت أحمد: وهي الزوجة الثانية للسلطان سعيد بن تيمور ووالدة السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- وتمثل نموذجًا للمرأة العُمانية ذات البصيرة والرؤية العميقة. كان لها أثر مباشر في تكوين شخصية السلطان الراحل وتهيئته لقيادة النهضة العُمانية.

عُرفت بقوة شخصيتها وكرمها وصبرها، وكانت تتنقل بين الشيوخ والأعيان تنصحهم وتحثهم على الفضيلة، وتحذرهم من الانجراف خلف مغريات زمن التغيّر.أطفأت الكثير من الفتن، وكانت صوت الحكمة الذي يجمع الناس على كلمة سواء.

ومن مواقفها الرفيعة أنها بعد بداية عهد النهضة طلبت من زوجات المشايخ والوجهاء لقاءهن في القصر لتعزيز الروابط الاجتماعية، وكان من بين الحاضرات والدة الكاتبة الشيخة جوخة بنت عبدالله بن محمد البطاشية- حفظها الله- بما يعكس الدور النسائي العميق في دعم اللحمة الوطنية.

لقد جسدت السيدة ميزون معنى الأمومة في أسمى صورها: أمّ لسلطان… وأم ّلوطن. ولهذا بقيت في الوعي العُماني رمزًا للنبالة والعمق والرقي.

السيدة الجليلة عهد بنت عبدالله البوسعيدية: تمثل السيدة الجليلة حرم جلالة السلطان المعظم- حفظها الله ورعاها- نموذج المرأة العُمانية الرائدة في العصر الحديث. يجتمع في حضورها الالتزام بالهوية الوطنية مع الانفتاح على القيم الثقافية والإنسانية؛ فهي ليست مجرد زوجة سلطان، بل شريك فاعل في المبادرات المجتمعية والتعليمية والثقافية.

ومنذ انطلاق النهضة المتجددة أطلت برؤية تعبّر عن وعي متقدم بدور المرأة في بناء الدولة الحديثة. وأولت اهتمامًا خاصًا بالمبادرات التي تعزز الإبداع والقدرات والمواهب العُمانية، تمارس دورها بصمت مؤثر، وتؤمن أن خدمة الإنسان العُماني هي أسمى صور الولاء للوطن. وحضورها في الوجدان العُماني لا يقاس بما يقال عنها، بل بما يتحقق بفضل رؤيتها الهادئة التي تؤكد أن العظمة لا تحتاج إلى صخب… وأن القلوب الكبيرة تصنع تاريخا بصوت خافت لكنه خالد.

إن الامتداد التاريخي لدور نساء آل سعيد لا يقوم على تشابه الأدوار؛ بل على توارث القيم: الحكمة، الاعتدال، الإيمان بالإنسان العُماني. وقد حملت نساء هذه الأسرة في كل حقبة مسؤولية تمثيل المرأة العُمانية بأبهى صورها، فكنّ سفيرات لقيم المجتمع قبل أن يكنّ رموزًا وطنية.

ولهذا لا يمكن قراءة سيرتهنّ بمعزل عن سيرة عُمان ذاتها؛ فكل مرحلة من مراحل تاريخ الوطن شهدت حضورًا نسائيًا يليق بعراقته.

وتأتي السيدة الجليلة عهد بنت عبدالله البوسعيدية لتُجسِّد ذروة هذا الحضور في صورته الحديثة؛ إذ تختزل في شخصها مسيرة قرون من الحكمة، ومن الرفق طريقا للقوة، ومن الإنسانية جوهرًا للقيادة.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z