وجعٌ يكشف ما أُخفي

 

 

حمود بن سعيد البطاشي

 

لا تمرُّ الأوطان من دون لحظاتٍ تطرق فيها الفاجعة أبواب القلوب، لكنها، في كثير من الأحيان، تأتي لتكشف ما تراكم خلف الأسوار الصامتة من قضايا مؤجلة وهموم لا تُقال. فاجعة أسرة العامرات التي رحلت عن دنيانا في مشهد موجع لا ينسى، كانت واحدة من تلك اللحظات التي وقفت أمامها عُمان كلها- من شمالها إلى جنوبها- حزينة، متأملة، ومصغية لرسالة لا يمكن تجاهلها.

إن رحيل أسرة كاملة تحت ظروف إنسانية مؤلمة ليس مجرد حادث عابر يُطوى في سجلات الوقت؛ بل جرحٌ يمسُّ الضمير الوطني، لأنه فتح بابًا على حقيقة ثقيلة؛ حقيقة أن بعض أبناء هذا الوطن يعيشون على حافة الحاجة، وأن غياب العمل والاستقرار الوظيفي ليس مجرد أزمة اقتصادية، بل مشكلة تمسّ الكرامة، وتؤثر على أمن الأسر وسلامة المجتمع بأكمله.

فالمتوفّى- رحمه الله- كان أحد أولئك الذين خرجوا من سوق العمل ليجدوا أنفسهم في دائرة الضيق دون مورد ثابت، شأنه شأن آلاف من المسرّحين والباحثين عن عمل الذين يحاولون يوميًا الحفاظ على توازن حياتهم وسط التزاماتٍ ومعيشةٍ تزداد صعوبة. ومن هنا، فإن دوافع الحادثة المؤلمة ليست محصورة في تفاصيلها المباشرة، بل تمتد إلى خلفية اقتصادية واجتماعية تشكّل بيئة خصبة لمثل هذه الانكسارات الإنسانية.

إنَّ الحديث عن هذا الواقع ليس تهجُّمًا، ولا ادعاءً على جهةٍ ما؛ بل محاولةٌ لقراءة الوجع الذي كشف المستور، والتفكير في المعالجات التي تمنع تكرار مثل هذه المآسي؛ فالأمن الاجتماعي يبدأ من شعور الإنسان بأن له وظيفة، وراتبًا، وسقفًا يحمي أبناءه من تقلبات الحياة. وحين ينهار هذا الأساس، تصبح الأسرة أكثر عرضة للانكسار، ويصبح الوطن أمام مسؤولية مضاعفة لحماية أفراده.

لقد بيّن هذا الحدث المؤلم أن البطالة ليست رقمًا في تقرير، ولا حالة فردية؛ بل قضية وطنية تتداخل مع الصحة النفسية، والاستقرار الأسري، وقدرة الإنسان على اتخاذ قرارات آمنة. ومن المؤسف أن بعض التفاصيل الصغيرة، حين تجتمع في حياة إنسانٍ مُنهك، قد تتحول إلى سلسلة من الأحداث التي تكتب نهاية مأساوية لم يكن أحد يتوقعها.

نحن اليوم أمام لحظة مراجعة حقيقية، ليس للوم أحد؛ بل لتقويم المسار. فالواجب الوطني والإنساني يستوجب أن نعيد النظر في ملف المُسرَّحين، وأن نبتكر حلولًا أكثر عدالة وسرعة وفاعلية. من الضروري أن توجد برامج احتواء سريعة، ودعم مؤقت يقي الأسر من السقوط، وبدائل حقيقية تُمكّن الإنسان من العودة إلى سوق العمل بكرامة. كما إن تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي أصبح ضرورة لا رفاهية. فالدول التي تقودها رؤية إنسانية تجعل الإنسان محور التنمية، لا تترك أبناءها في مواجهة الحاجة وحدهم، ولا تسمح بأن تتحول الضغوط الاقتصادية إلى خطر يهدد الأرواح.

ومع حجم الألم، لا يمكن إغفال ما أظهره العُمانيون من تكاتف وتراحم عظيمين. فقد بدا واضحًا، كما هي عادتهم، أنهم أسرة واحدة لا تتردد في الوقوف مع من يمر بمحنة. لكن التعاطف- على عظمته- لا يكفي إنْ لم يصحبه إصلاح يعالج الأسباب الجذرية، ويمنع تكرار المأساة في بيتٍ آخر.

دموع العامرات رسالةٌ، وصمت البيت الخالي رسالةٌ، وصورة الأطفال الراحلين رسالةٌ… وكلها تقول لنا إن هذا الوطن يحتاج إلى قرارات تنطلق من الوجع، لا من الأوراق. وأن حماية الأسرة العُمانية هي خط الدفاع الأول عن استقرار المجتمع.

رحم الله الأسرة الرحيمة، وجعل من مصابها نورًا يهدي إلى الإصلاح، ودافعًا حقيقيًا لمراجعة السياسات، وفتح أبواب جديدة للأمل، حتى لا ينكسر قلبٌ آخر بسبب حاجةٍ كان يمكن أن تُسد، أو فرصة كان يمكن أن تُمنح، أو إنسان كان يمكن أن يُنقذ.

فهذا الوجع… لم يأتِ ليبكينا فقط؛ بل ليكشف ما أُخفي، ويذكّرنا بأن الإنسان هو أثمن ما في هذا الوطن.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z