ماجد المرهون
قبل أكثر من 40 عامًا وقبل ظهور اليوتيوب ومنصات التواصل الاجتماعي، كانت تصلنا المحاضرات الصوتية في صيغة أشرطة كاسيت سمعية مع رداءتها، إلّا أنها كانت أفضل الموجود آنذاك، وقد كنتُ دائم البحث عن بعض المحاضرات، خصوصًا ذات الطابع العلمي وهي بطبيعة الحال قليلةٌ جدًا، ولم يتوفر منها إلا بعض محاضرات الشيخ الراحل عبدالمجيد الزنداني- رحمه الله- وهو يتحدث بأسلوبهِ الشيِّق عن الإعجاز العلمي في القرآن والسُنَّة؛ حيث كنت استمع له بكل جوارحي وبشكل يومي حتى حفظتها عن ظهر قلب.
ثم تطور الأمر قليلًا في بداية التسعينيات من القرن الماضي، ومع ظهور بعض المكتبات التي تعنى ببيع الكُتب والأشرطة السمعية الثقافية والدينية، وقد ساقتني ميولي العلمية للتعرف على الدكتور زغلول النجار من خلال كتابه بعنوان "من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم"؛ ذلك الكتاب الذي أبهرني بكمٍ هائل من المعلومات ولم أكن أعلم عن مُعظمها شيئًا من قبل، لا سيَّما في باب ربطها الدقيق مع ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية على صاحبها الصلاةُ والسلام.
كانت الموسوعة العربية العالمية ذات الثلاثين مُجلدًا هي مرجعي الأول في كُل شيء تقريبًا وهي من قام مقام ويكيبيديا وجوجل وشات جي بي تي في حقبة ما قبل الإنترنت، ولم تكن سلسلة الدكتور زغلول النجار أقل شأناً حين نضع في اعتبارنا أن الموسوعات نتاج مجموعة كبيرة من أبحاث العلماء وجُمعت في عِدة مجلدات بينما كُتب النجار في مُعظمها كانت نتاج أبحاثه الخاصة والتي يستند فيها على مرجعيته الأصيلة للقرآن والسُنَّة.
صحيحٌ أن الدكتور زغلول النجار كان عالمًا جيولوجيًا، لكن لم يمنعه ذلك من البحث في علومٍ أخرى، إلّا أن بعض العلماء المُعاصرين له قد ذهبوا إلى افتراض عدم جواز أو تقبُّل خوضه خارج نِطاق تخصصه ولكنه افتراض ضعيف من وجهة نظري القاصرة؛ حيث تعمد إلى تحجيم العالِم في إطارٍ ضيقٍ جدًا وهو قوقعة التخصص فقط حسب المفهوم العلمي الغربي الحديث، بيد أن النجار لم يُعر بالًا تلك المُثبطات وأحمد الله أنه لم يفعل، وربما استحسنُ افتراضًا أن علم الجيولوجيا كان مدخلًا واسعًا لفضيلته في التأمُّل والتفكر في بديع خلق الله وأجزم أن هذا المدخل كان مؤهلًا له إلى الإبداع العلمي ومواصلة أبحاثه المشروطةِ بسندٍ مرجعي إسلامي، ويتبين ذلك فيما أسماه "بأسلمة العلوم" والذي استثار من حلوله موجةً من الانتقادات في الأوساط العلمية والقافية، إلا أن الرجل كان واضحًا في ذلك التوجه من خلال رؤيةٍ إصلاحيةٍ للتعليم؛ باعتبار أن العلم لا يتناقض مع الدين الإسلامي ومن الضرورة أن يؤصل هذا المفهوم كقاعدة وألا يجب الفصل بينهما كما فعلت المسيحية الجديدة، ويُظهر في الجانب الآخر تأصيل الحروب والنزاعات والعُنف في وعي العامة باسم الدين ولا يجوز لها ذلك.
لا يُمكنني إخفاء حبي العميق للدكتور زغلول النجار كما لا يُمكنني إنكار إعجابي الشديد به في مواصلة مسيرتهِ العلمية لقِدم سبقهِ ضمن قلةٍ من العلماء في مجال الإعجاز العلمي، مع كل ما تعرض له من محاولات إحباط، وما اعترى مسيرته من مناقد وتشكيك وأحيانًا نقد لاذع من بعض علماء المُسلمين من أهل الحرص على التثبت في التفسير والتأويل، وكذلك حدث من بعض المُستعلمين أشباه العلماء والماديين والعلمانيين الذين لا يقرون إلّا بالمنهج العلمي التطبيقي المبني على التجربة والإثبات، وما عدا ذلك فلا يعدو قدر الأسلوب النظري التأملي ولا يمكن برهنته، وبالتالي لا يُمكن البناء عليه كقاعدةٍ منهجية صلبة أو مرجِعًا يُعتد به، وقياسًا مع علوم الفيزياء مثلًا والتي تُعتبر اليوم أكثر العلوم صلابةً فإن بعض العلماء لا يزالون يشككون في شيءٍ منها لعدم القدرة على إثباتها ولكنها اتخذت مسارها في التعليم المنهجي، فمثلًا نظرية الانفجار العظيم للكون واقعة بين الإقرار والإنكار والتأكيد والتشكيك.
قد لا يخفى على كُل متابعٍ لأعمال الدكتور زغلول النجار والتي تجاوزت 40 كتابًا و150 بحثًا، أنه حمل هَمَّ الأمة الإسلامية التي تراجعت كثيرًا عن اللحاق بركب الأمم في الجانب العلمي ويُعزيه الى ضعف الإنفاق على البحث العلمي من جانب، والإعجاب بالحضارة الغربية ومساوئها والابتعاد عن المنهج الإسلامي من جانبٍ آخر، كما لا يخَفى حبُه الشديد للعرب وغيرته عليهم ويتجلى ذلك في مُعظم مُحاضراته ولقاءاته، وهذا ما يُرجِّح كفة محبة الناس له وإعجابهم به، فضلًا عما يقدمه من علمٍ ومعرفه واسترسالٍ عجيب في الحديث مع استشهاداته العلمية والفقهية.
رحم الله الداعية الدكتور زغلول راغب محمد النجار، الذي رحل عن عالمنا يوم الأحد الماضي، لكن سيبقى طيب أثره الضخم في تركته خالدًا فينا وفيمن سيأتي بعدنا، وكما يفعل دائمًا الكثير من أبناء مصر العظيمة- ولله درها- تلك البلاد التي لا تبخل برفد الأمةِ بالعلماء العظام منذ فجر الإسلام وإلى اليوم، ونحن في هذا المقام لا نُعزِّي المصريين في رحيل النجار وحسب؛ بل نُعزي الأمة الإسلامية جمعاء ولا نجد سلوانا في ألم المُصاب إلّا أن نسأل الله العلي القدير أن يكتب كل ما قدمه عبده زغلول النجار من أبحاثٍ وعلوم في ميزان حسناته وأن يجعلها شاهدةً له يوم الدين.
