بين الواقع والكلمات.. "الفنجان ماد"

 

 

إسماعيل بن شهاب البلوشي

ليست كل الكلمات تُقال لتُسمع، فبعضها يُقال ليُحس، لتوقظ فينا شيئًا من ذاكرتنا التي تنام على أطراف الصحراء وفي ظل النخيل المخلف من غرس الأجداد.. من هذه الكلمات التي تُشبه حكايات الزمن، كلمة قالها أحد الأجداد ذات يوم وهو يبتسم ويقول: "الفنجان ماد".

قد تمرّ على أذن السامع اليوم فلا تُثير شيئًا، ولكن في قلب من عاش معناها، تختبئ قصة حياةٍ كاملة. حدثني أحد كبار السن من أهلي يومًا، وقد رحل إلى جوار ربه، رحمه الله عن زمنٍ كانوا فيه في سفر طويل، عبر وادٍ سحيق، وادٍ يشبه الغربة وفيه جمال حياة لسكان يبتسمون رغم صعوبتها. وبعد تعب من إشعال النار، أعدّوا القهوة؛ تلك القهوة التي كانت رمز الكرم والأنس والراحة لكنهم وجدوا أنَّ الفنجان غير موجود.

تساءلوا: أين الفنجان؟

فأجاب أحدهم ببساطةٍ تحمل عمق الحياة كلها: «الفنجان ماد»، أي أنَّ الفنجان مسافر، قد أخذه أحد الجيران أو أهل الوادي الآخر ليصبّ القهوة لضيفٍ عنده.

تأمَّلوا هذا المشهد!

مجموعة من البيوت في وادٍ واحد يتناوبون على فنجانٍ واحد.

كل بيت حين يزوره ضيف يبحث عن ذلك الفنجان، يعرف أين ذهب، فيُرسلون من يستعيره.

كم في هذه الحكاية من بساطة وصدق وتعاون، وكم فيها من رمزية الألفة والتكافل.

لقد كانت الحياة صعبة، ولكنها كانت واضحة الملامح، فيها من النقاء ما يغني عن كل مظاهر الرفاه الحديثة.

كان الناس يعرفون بعضهم، ويشعرون ببعضهم، ويعيشون جماعة واحدة، لا يفرقهم المال ولا المظاهر.

أما اليوم، فمع أن الفناجين كثيرة، والمقاهي منتشرة في كل زاوية، إلا أن «الروح» التي كانت في ذلك الفنجان الواحد قد غابت أو كادت.

صرنا نعيش في زمنٍ تتعدد فيه الأدوات وتقلّ فيه اللقاءات ومع ذلك فإن العماني مازال يقاوم حداثة الحياة ليحافظ عليها. نملك كل شيء تقريبًا، لكننا نفتقد دفء المشاركة، وصدق البساطة، وجمال القناعة.

هذه القصة الصغيرة، التي قد يراها البعض عابرة، تذكّرنا بأن الأجداد لم يعيشوا الرفاه، لكنهم عاشوا الكرامة. لم يملكوا الفناجين الكثيرة، لكنهم امتلكوا قلبًا واحدًا يتسع للجميع.

ومن هنا، نحن بحاجة إلى أن نراجع أنفسنا — لا لكي نعود إلى الماضي، بل لكي نفهمه ونستلهم منه. نحتاج أن نعيد قراءة الحياة بعينٍ ترى المعاناة كجزء من البناء، لا كسببٍ للشكوى. فمن يشكو اليوم من صعوبة العيش، ليتذكّر أن الماضي كان أشد قسوة، ومع ذلك وُلد منه جيل صنع الحياة من الصخر والرمل.

وفي المقابل، علينا أن ننفتح على الحاضر بعقلٍ متزن وروحٍ متفهمة. نعم، هناك من يتحفّظ على الانفتاح والسياحة ويخشى آثارها، ولهم وجهة نظرٍ تستحق الاحترام، لكن في الوقت نفسه، لا يُمكن لأمةٍ أن تبقى حبيسة الخوف؛ فالحياة لا تُبنى بالانغلاق؛ بل بالتوازن بين الأصالة والانفتاح.

لسنا بحاجة إلى أن نقلد العالم، بل أن نعيش كما يعيش النَّاس، نستمتع بما أوتينا من خيرات، ونقلل من السلبيات ما استطعنا، دون أن نفقد جوهرنا.

إن «الفنجان ماد» ليست مجرد عبارة من الماضي، بل رمزٌ لمعنى كبير: رمزٌ لعطاءٍ مشترك، وذاكرةٍ جماعية، ورسالة تقول لنا إننا- رغم اختلاف الأزمنة- ما زلنا نحتاج إلى بعضنا البعض.

ربما تغيرت الأدوات، لكن الإنسان هو الإنسان.

وما أجمل أن نحافظ على ما بقي فينا من ذلك الفنجان الواحد، الذي كان يدور بين الأيدي، ويملأ القلوب دفئًا قبل أن تملأ الفم قهوة.

الأكثر قراءة