حديث الجهل

 

 

 

 

عائض الأحمد

 

يتقدّم الصفوفَ، ويتبعه القطيع، وتتناثر حوله الورود، وتمجّده الردود، ويزهو بين محبّيه، مكرّرًا خيبته.

ظهوره مخجل، وعباراته سوقيّة مبتذلة، تُرهق أسماع أطفال الشوارع قبل أن تُرهق من يصفّق له تعصّبًا أو نكايةً بالآخرين.

لقد تجاوز الوسط الإعلامي الرياضي مرحلةَ الانفلات، إلى التوغّل في النوايا، وربما في البيوت وأسلوب الحياة، مقتحمًا كلّ الخطوط، متجاوزًا المباحَ والمستباح. ما عاد الصوت العالي دليلَ حقّ، ولا كثرة المتابعين معيارَ وعي.

السطحيّ اليوم يُقدَّم نجمًا، والفارغ يُستضاف خبيرًا، والجاهل يُرفع منابر، لا لعلمٍ يحمله، بل لصوتٍ يجيد الصراخ.

تحوّل الإعلام إلى ساحة تراشقٍ لفظيّ، لا إلى منبر معرفةٍ أو تربيةٍ رياضية.

أضاع كثيرون الرسالة حين جعلوا الإثارة غاية، والتجريح وسيلة، الجهل مادّةٌ تُغذّي جمهورًا يبحث عن التسلية لا الوعي.

ولأننا تركنا مساحة الجلبة الإعلامية تتضخّم، صار من الطبيعي أن نرى "الجهل" يتكلّم بثقة، و"العقل" يلتزم الصمت خجلًا من مستوى النقاش.

لكنّ الصمت هنا ليس ضعفًا، بل احترامٌ لذائقةٍ أرهقها الجدل الفارغ.

المُضحك أن تبادُل الألوان صار عنوانَ الولاء، فمن يحقق مصالحه سارع خلفه، وسلّ سيفه دون هوادة، ظانًّا أن حصانه الأبيض يشقُّ صفوف أعدائه ويُثير النقع في جبين البطولة.

أولم نجد فيكم رشيدًا يقول: أيُّ عيبٍ هذا؟ وأيُّ حماقةٍ تصدّرونها لأجيالٍ تعشق التنافس، وتتابع الرياضة بشغفٍ ونقاء؟

ومن أعجب ما في القوم أن كبيرَهم وصدى صوتهم يحمل حرف "الدال"، يُدرِّس في مدرج علمٍ صباحًا، ثم يُدير مدرّج ملعبٍ مساءً!

وذاك المخضرم الذي يصدح كلّ يومٍ، وله من اسمه نصيب، سيبقى رغم كلّ هذه السنوات وليد أفكاره وتعصّبه.

لها: إنْ كانت الرياضة أنثى أقول: ما خُلِقتِ للخصام، ولا لتجاذب الأهواء؛ بل كنتِ ميدانَ تنافسٍ شريفٍ يرفع الأخلاق قبل الكؤوس.

كم شوّهوا وجهك الجميل بالصراخ والادّعاء، لكنّ نقاءكِ لا يزول، فالفطرة تعرف الجمال وإن غيّبته الأصوات. فهل آن لكِ أن تستعيدي بهاءك من بين أيدي العابثين؟

شيءٌ من ذاته: ليست المنابر من ترفع الناس، بل ما يحملونه إليها من فكرٍ ووعيٍ وأدب.

ولعلّ الصمت اليوم أجملُ أشكال المقاومة، حين يصبح الحديث صدىً لا معنى له، وحين يكون العقلُ هو الغائبَ الأكبر عن مشهدٍ يزدحم بالصراخ.

نقد: الجهل حين يلبس ثوب المعرفة، يصبح أخطر من الجهل العاري.

وما يعيشه الوسط الإعلامي الرياضي اليوم ليس نقصًا في الوعي، بل فائضًا في الادّعاء؛ فبعض المنابر لا تبحث عن رأيٍ يُبنى عليه، بل عن صخبٍ يُشاهد ويُتداول.

ولأن المعيار غاب، صار المظهرُ يُقدَّم على الجوهر، والادعاء الباطل على الفكرة، والمجاملة على الموقف.

إنه زمنٌ يُكافَأ فيه المتحدث قبل أن يُسأل: عمّ تكلّمت؟

 

الأكثر قراءة