محمد بن علي بن ضعين البادي
في ذاكرة الأوطان، يُولد القادة كما يُولد الفجر بعد ليل طويل، يوقظ الروح، ويُعيد للحياة معناها الأصيل. وبين صفحات التاريخ العُماني، لا يطل علينا نوفمبر كغيره من الشهور، بل يأتي حافلًا بنداء الروح، يُذكرنا برجل كان لوطنه الأمان بعد الخوف، والنور بعد الظلام.
في نوفمبر.. وُلد ذلك الإنسان الذي لم يكن مُجرد سلطان، بل أب لليقين، وصوت للسلام، ومعلم للحلم والمستقبل.
في نوفمبر.. انبثقت من بين جبال عُمان إرادة أزالت الشقاق، وبنت وطنًا يشبه قلوب أبنائه: صبورًا، نقيًا، شامخًا.
ليس الحديث عن قابوس مُجرد استحضار لذكرى رحيل، بل هو استدعاء لروح قائد عاش بين شعبه، فصار الوطن أكبر من كل تضاريسه، وأعمق من كل حدوده. لم يجالس العرش، بل جاور النَّاس، فكان منهم ولهم، حتى إذا رحل، بقي صوته ماثلًا في الضمائر:
"أعينوني على حمل الأمانة... فإنَّ الوطن أمانة الله في أعناقنا جميعًا."
هذا المقال ليس رثاء لراحل؛ بل عهد لنهج خالد. ليس مجرد كلمات؛ بل حق لماضٍ صنع مجد الحاضر، وواجب نحو مستقبل لا يليق به إلا أن يظل امتدادًا لتلك الروح التي أحبت عُمان، فعاشت فيها خالدة إلى الأبد.
قابوس... من صحراء الشقاق إلى دولة الوحدة
حين اعتلى السلطان قابوس بن سعيد- رحمه الله- سدة الحكم في عام 1970، لم يكن يُشرف على دولة موحدة؛ بل على بقاع متفرقة، وأرض أنهكها الانقسام والتخلف. لكن الرجل الذي وُلد ليكون قدر عُمان الجميل، حمل في قلبه مشروع أمة، لا مشروع حكم.
جمع الشمل... فوحد الأرض قبل البشر. خاض حرب السلاح... لا لإخماد ثورة، بل لردع فتنة أرادت تمزيق الوطن. ثم خاض حرب الفكر... لا بالسلاح، بل بالعلم والنهضة؛ حربًا على الجهل، والمرض، والتهميش.
كان يُدرك أنَّ السيف قد يردع خصمًا، لكنه لا يبني وطنًا. لذلك، كان السيف في يد، والمصحف وكتاب العلم في يد أخرى. فوضع الأساس، وبنى الكيان، وصنع الإنسان.
نهضة التعليم... وإيمان بالإنسان
لم يكن التعليم عند قابوس ترفًا، بل ضرورة وجود. فتح المدارس، وبنى الجامعات، وأرسل البعثات، وربّى الأجيال. من مهاجع الصحراء انطلقت خطوات متعطشة للعلم، ومن أروقة الجامعات خرجت كفاءات حملت على عاتقها بناء وطن من نور.
تحولت عُمان من بلد محدود الإمكانيات والحضور، إلى دولة يمتد صداها في كل المؤسسات الإقليمية والدولية، بفضل شعب مسلح بالعلم قبل أي سلاح.
دبلوماسية السلام... وجوار لا يخون
لم يعرف التاريخ الحديث قائدًا يشبه قابوس في قدرته على الجمع بين الهيبة والسكينة. وضع عُمان في قلب السياسة العالمية، لا بسطوة القوة، بل ببراعة الحكمة. كانت مساعيه للصلح بين الدول، وصوته الداعي للسلام، علامة فارقة في عالم مقسم بين المعسكرات والصراعات.
لم تنحز عُمان في عهده إلى سياسة المحاور، بل إلى سياسة المبادئ؛ فحافظت على علاقات متوازنة مع الجميع، وكسبت احترام العالم دون أن تخسر أحدًا. كانت وسيطًا أمينًا حين خفتت الأصوات الصادقة، وكان قابوس رجلًا للعقول قبل أن يكون رجلًا للعواطف.
عُمان البوسعيد... من عهد الإمام إلى دولة المجد
لم تكن عُمان حديثة العهد بالأمجاد حين جاء قابوس، بل كانت دولة ضاربة بجذورها في التاريخ، سطرتها أسرة البوسعيد، تلك الدولة التي أسسها الإمام أحمد بن سعيد في منتصف القرن الثامن عشر، بعد أن طهر الأرض من الغزاة ونشر الأمان في أرجائها. كانت عُمان يومها تستعيد رويدًا حضورها في مياه الخليج والمحيط الهندي وشرق إفريقيا، فصارت إمبراطورية بحرية، وبيتًا للعلم والدعوة، وملاذًا للتجار والرحالة.
ومع أن تعاقب الأزمنة قد بدّل الأحوال، فإن روح الدولة البوسعيدية لم تذبل، بل كانت تنتظر قائدًا يُجدد شبابها ويستحضر أصالتها. فجاء قابوس بن سعيد، حفيد تلك السلالة العظيمة، ليُعيد للدولة بريقها، ويصنع نهضتها الحديثة. لم يبنِ من فراغ، بل امتد في مشروعه من إرث أجداده، فجمع بين سيرة الإمام المؤسس أحمد بن سعيد، ورسالة النهضة المعاصرة التي رفعت اسم عُمان في محافل السياسة والحضارة.
ولأن الأمم تبنى بسلسلة متصلة من القادة، فقد كان قابوس حلقة من ذهب في سلسلة من نور، جعلت من عُمان وطنًا ثابتًا في جذوره، متجددًا في فروعه.
عهد مُمتد... من قابوس إلى هيثم
وكان قد أوصى السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيب الله ثراه- بأن يتولى الحكم من بعده جلالة السلطان هيثم بن طارق المُعظم- حفظه الله ورعاه- ليكون امتدادًا لتلك السيرة العظيمة في بناء عُمان. لم تكن الوصية مجرد نقل سلطة؛ بل كانت رسالة ثقة وعهد وفاء لوطن يستحق أن يُكمل مسيرة النور التي بدأها قابوس.
ومنذ توليه مقاليد الحكم، أخذ السلطان هيثم بن طارق المفدى- أعزه الله- على عاتقه تطوير نهج القيادة الحكيمة، وتعزيز مسيرة التنمية والبناء. فقد أطلق إصلاحات عميقة شملت جميع القطاعات، وحوّل الرؤية الوطنية إلى خطوات عملية ملموسة. في عهده، شهدت عُمان تطوير البنية التحتية، وتعزيز التعليم، ودعم الاقتصاد الوطني، مع الحفاظ على القيم الأصيلة لوطن متحدّ ومتماسك.
لقد عزز جلالة السلطان هيثم بن طارق دور عُمان الإقليمي والدولي بصوت حكيم وراسخ، فكانت عُمان دائمًا وسيطًا للسلام وشريكًا موثوقًا للجميع، محافظًا على توازنها السياسي وسمعتها الطيبة في المحافل العالمية. إنجازاته تجسّد الحرص على استمرار النهضة والازدهار، مع بناء أجيال من الشباب القادرين على حمل لواء عُمان نحو المستقبل بثقة وعزيمة.
وبهذا، يستمر عهد النهضة، من قابوس إلى هيثم، في مسيرة واحدة متصلة من الإبداع والإخلاص للوطن، ليظلّ كل يوم منجزًا جديدًا يضاف إلى تاريخ عُمان المجيد.
سلامٌ على نوفمبر... شهر من نور ووفاء.
سلامٌ على قابوس... على من أعاد للوطن اسمه، وللأرض قيمتها، وللإنسان كرامته.
سلامٌ على هيثم بن طارق... على من استكمل المسيرة، وأثبت أن عُمان تبنى بالعزيمة والحكمة والقيادة الصادقة.
نكتب عنك يا قابوس لا لنرثي رحيلك، بل لنحيي دربك. ونستحضر سيرتك لا لنستحضر الماضي، بل لنفهم الحاضر، ونصنع المستقبل الذي يليق بك وبعُمان.
