د. عبدالله بن سليمان المفرجي
في عامٍ تتهادى فيه الرؤى والأفكار نحو التمكين والتميز والإبداع والابتكار، أعلنت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في سلطنة عُمان عن تخصيص عامٍ كامل ليكون «عام الموظف لعام 2025»، في بادرةٍ تنضحُ فهمًا عميقًا موجها لمركزية الإنسان في بناء أعمدة المؤسسات، وإدراكًا بأن النهضة لا تقوم على الهياكل والإجراءات، وتوظيف التقنيات الحديثة، والذكاء الاصطناعي والميتافيرس وغيرها في جميع خدماتها وإجراءاتها؛ بل على سواعد الرجال والنساء الذين يحملون روح المسؤولية ويصنعون الفرق في ميادين العمل ومحافل العطاء.
لقد أرادت الوزارة أن تضع الموظف في قلب المشهد، لا على الهامش، وأن تجعل من عطائه محور التنمية الإدارية وروح التطوير المؤسسي، فالموظف هو البذرة الأولى التي تنبت منها شجرة الإنجاز، وهو الجسر الذي تعبر عليه الرسالة من الفكر إلى الفعل، ومن الخطة إلى الواقع المعيش.
ولم يكن هذا التوجه ليبقى حبرًا على ورق، أو قرارًا يصدر من برج عاجي عالي، بل شهدت مسيرته حرصًا مباشرًا ومتابعة حثيثة مستمرة من معالي وزير وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الموقر، الذي وقف بنفسه على رسم خطط هذا العام الاستثنائي وتفاصيل برامجه. فلم يكتفِ معاليه بإعطاء التوجيهات السديدة، بل غاص في الأعماق التنظيمية، يجلس مع العقول العاملة، ويستمع إلى الأفكار المبدعة، ويشارك في وضع اللبنات الأولى لمشروعٍ يؤمن بأن الإنسان هو محور التغيير الحقيقي. لقد أراد معاليه -سدد الله خطاه- أن تكون هذه الخطة نتاج عقل جماعي، وتلاقح أفكار مبتكرة وملهمة، وثمرة رؤية مشتركة مبدعة، تنبع من صلب العمل اليومي وتلامس تطلعات من يحملون على عاتقهم مسؤولية ترجمة رسالة الوزارة إلى واقع ملموس ونهجُا معيشًا.
إن تخصيص هذا العام للموظف ليس تكريمًا رمزيًا عابرًا فقط، بل هو إعلان لمرحلة جديدة من الوعي المؤسسي، تنقلك من ثقافة الأداء الروتيني العادي إلى فضاء الإبداع والإتقان، وتغرس في بيئة العمل بذور الانتماء والإخلاص والعطاء. لقد أدركت الوزارة أن الاستثمار في الإنسان هو الاستثمار الأجدر، وأن بناء القدرات وتحرير الطاقات لا يقل شأنًا عن تشييد المساجد أو تنمية الأوقاف، ونشر الوعي الديني وبث رسالة الإسلام للعالمين؛ لأن الموظف هو من يعمّر المسجد ويُنمّي الوقف ويصون الفكر والهوية.
جاء عام الموظف ليُعيد للإنسان مكانته، وليُذكّر بأن القيمة الحقيقية في المؤسسات ليست في المكاتب الحديثة العصرية أو الأنظمة الإلكترونية الحديثة، وفي بناء ترسانة متينة من الأمن السيبراني؛ بل في العقول التي تُفكّر، والقلوب التي تُخلص، والأيدي التي تُنجز بجد وعزم وإخلاص.
ومن هذا المنطلق، أطلقت الوزارة برامج نوعية مبتكرة ومبادرات متقنة تهدف إلى تمكين الكوادر، وتأهيلهم علميًا ومهنيًا، وتزويدهم بأدوات المعرفة والمهارة التي تجعلهم قادرين على مواكبة التحولات الإدارية والتقنية المتسارعة. إنها رحلة نحو التمكين الذاتي، حيث يتعلّم الموظف كيف يكون معلّمًا ومُلهِمًا في آنٍ واحد، وكيف يزرع في نفسه بذرة التميز قبل أن يطلبها من غيره. انطلاقا من قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم" (الرعد: 11).
لقد ارتقت الوزارة بهذا التوجّه من شعارٍ يُقال إلى ممارسةٍ تجسد على أرض الواقع والحقيقة، فجمعت بين التحفيز والتأهيل والتدريب، وبين التواصل الداخلي وبناء الثقة، وبين الإتقان في العمل والجمال في الأداء. هي بذلك تُرسّخ فلسفة مؤسسية ترى في كل موظف قيمة مضافة، وفي كل جهد صغير لبنة في صرحٍ كبير من العطاء المتراكم. وما أجمل أن يأتي هذا التوجه في ظل رؤية "عُمان 2040" التي جعلت الإنسان محورها، فالتقاء الهدفين يُنتج نموذجًا إداريًا راقيًا يستلهم القيم العُمانية الأصيلة في الإخلاص والتفاني، ويستثمر التقنية الحديثة لصناعة مستقبل أكثر إشراقًا وكفاءة.
إن عام الموظف ليس مجرد محطة زمنية، بل هو مدرسة راقية وجميلة من الوعي المؤسسي، تُعلّمنا أن التميز لا يُفرض بقرارات هابطة كالسيل المدرار؛ بل يُصنع بالإيمان برسالة العمل، وأن القمم لا تُبلغ إلا برغبةٍ صادقة وعزيمةٍ صادقة لا تلين. إنه يضعنا أمام مسؤولية جميلة تتمثل في بناء ثقافة تنظيمية تتبنى التحسين المستمر كمنهج حياة، وتجعل من التميز المؤسسي نهجًا راسخا وشاملًا. بقراراتها الصاعدة، وفي هذا الإطار، فإن الدعوة موجهة إلى كل مؤسسة الدولة الحكومية والخاصة في ربوع بلادنا عُمان الحبيبة للاهتداء بهذا النهج النير، واعتماد فلسفة التميز المؤسسي التي تضع الموظف في صلب اهتماماتها وأوليتها. فليس هناك استثمار أنضج من الاستثمار في رأس المال البشري، ولا نجاح يدوم إلا ذلك المبني على سواعد أبنائه المخلصين المثابرين الأوفياء.
وختامًا، فإن عام الموظف يمثل لحظةَ صدقٍ في مسيرةِ العمل الوطني، ونبراسًا يُضيء بمداد من نور الطريق للمؤسسات كي تُعيد اكتشاف كنزها الحقيقي (الإنسان) والتنقيب عن الكفاءات والخبرات الفعالة واستغلالها لبناء الأوطان، فهو دعوةٌ لنتذكر أن الإنجازات العظيمة تُبنى بأيدي أبنائنا وبناتنا، وأن مستقبل عُمان الزاهر يُصنع في عقولهم وقلوبهم الصادقة قبل مكاتبهم. فلتكن هذه البادرة مصدر إلهامٍ للجميع، ولنعمل معًا على غرس ثقافة التميز والإتقان في كل مجال، حتى نكون كما أرادنا السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- ومن بعده خير خلف لخير سلف، حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- أمةً تسبق الزمن، وتحفر في سجل التاريخ مجدًا جديدًا بعزيمة أبنائها.
