د. سالم بن عبدالله العامري
في مشهد استثنائي جمع بين الرمزية السياسية والرهانات الميدانية، وُقّع في شرم الشيخ اتفاق لوقف إطلاق النَّار بين إسرائيل وحركة حماس برعاية مصرية ودعم من قطر وتركيا والولايات المتحدة، وبحضور عدد من قادة العالم.
ورغم الطابع الدبلوماسي للحدث، فإنَّ جوهر الاتفاق يكشف عن تحوّل عميق في معادلة القوة وعن انتصار غير مُعلن للمقاومة الفلسطينية التي استطاعت، رغم الحصار والدمار والخذلان، أن تفرض شروطها على الطاولة الدولية.
الاتفاق الذي أنهى عامين من القصف المتواصل على غزة تضمّن وقفًا شاملًا لإطلاق النار، وانسحابًا تدريجيًا للقوات الإسرائيلية، وإطلاق سراح مئات الأسرى الفلسطينيين مقابل المُحتجزين الإسرائيليين. هذه البنود ليست جديدة في مضمونها، لكنها جديدة في مَن فرضها؛ إذ جاءت بعد أن فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها المعلنة بإسقاط حماس أو القضاء على قدراتها، لتجد نفسها مضطرة إلى القبول بصفقة تبادل وفق الشروط التي طالما رفضتها. أكدت حماس منذ بداية الحرب أن الأسرى الإسرائيليين لن يُفرج عنهم بالضغط العسكري؛ بل عبر صفقة تبادل عادلة، وهو ما تحقق بالفعل. وهكذا تحوّل الاتفاق إلى شهادة سياسية على أنَّ المقاومة استطاعت أن تصمد، وأن القوة وحدها لم تُنهِ إرادة غزة.
ورغم ما عانته من دمار هائل ونزوح متكرر وتجويع ممنهج، أثبتت غزة أن الصمود ليس مجرد شعار؛ بل استراتيجية بقاء. لقد واجهت الحرب بأدوات محدودة لكنها امتلكت سلاحًا أقوى: الإصرار على الكرامة. وإذا كان العالم قد شهد جولة جديدة من الدم، فإنَّ ما خرجت به المقاومة من اعتراف ضمني بشرعيتها وقدرتها على التفاوض المتكافئ يعدّ انتصارًا سياسيًا بامتياز. هذا الصمود جعل حتى خصومها يعترفون أن الحل العسكري لم يعد ممكنًا، وأن أي تسوية مستقبلية لا يمكن أن تتجاهل وجود حماس كفاعل رئيسي في المشهد الفلسطيني.
من الجانب الإسرائيلي، أظهر الاتفاق هشاشة غير مسبوقة في الموقف الداخلي والخارجي، فقد فشلت حكومة نتنياهو في تحقيق وعودها بإعادة الردع، لتجد نفسها تواجه أزمة ثقة داخلية واحتجاجات غير مسبوقة ضد استمرار الحرب. على الصعيد الدولي، تعرّضت إسرائيل لعزلة متزايدة بسبب صور الدمار والمجازر في غزة، التي صدمت الرأي العام العالمي وأثارت موجات تضامن غير مسبوقة مع الفلسطينيين؛ ففي أوروبا وأمريكا وآسيا وإفريقيا، خرجت الملايين في مظاهرات طالبت بوقف الحرب ومحاسبة الاحتلال، ما دفع عواصم غربية إلى إعادة النظر في دعمها المطلق لإسرائيل، والضغط على واشنطن لتبني مسار التهدئة.
لقد أدركت الإدارة الأمريكية أن استمرار الحرب يهدد مصداقيتها ومصالحها في الشرق الأوسط، وأن الدفاع غير المشروط عن تل أبيب أصبح عبئًا سياسيًا وأخلاقيًا، خصوصًا بعد اتساع الكراهية الشعبية العالمية لإسرائيل نتيجة جرائمها في غزة والضفة.
على الجانب العربي، كشف الاتفاق عن سقوط أخلاقي لبعض الأنظمة التي التزمت الصمت أو شاركت في مسار التطبيع تحت عنوان "السلام الإبراهيمي"؛ فبينما كانت غزة تُقصف وتُحاصر، اكتفى كثيرون بالبيانات أو بحسابات المصالح، ليجدوا أنفسهم اليوم أمام مشهد يُعيد تعريف موازين الشرعية في المنطقة. فمن انتصر في النهاية؟ ليست الحكومات التي راهنت على إسرائيل؛ بل الشعوب التي وقفت مع غزة ورأت في صمودها استمرارًا لهوية الأمة وضميرها. الاتفاق، بهذا المعنى، لم يفضح إسرائيل وحدها؛ بل عرّى عجز الأنظمة التي ظنت أنَّ القبول بالأمر الواقع سيكسبها حماية أو مكانة، فإذا بها تخسر احترام شعوبها ووزنها الأخلاقي في الساحة الدولية.
ورغم أنَّ اتفاق شرم الشيخ أنهى الحرب مؤقتًا، إلّا أنه فتح أسئلة جديدة حول مستقبل غزة: من سيحكمها في المرحلة المُقبلة؟ وهل ستقبل حماس بالانخراط في بنية سياسية موحدة؟ وما مستقبل العلاقة بين غزة والضفة الغربية؟ تلك الأسئلة ستحدد إن كان الاتفاق هدنة دائمة أم محطة تكتيكية في صراع طويل. لكن المؤكد أن إسرائيل خرجت من الحرب أضعف سياسيًا، وأن المقاومة خرجت أكثر رسوخًا في وجدان الشعوب وأكثر حضورًا في المعادلات الدولية.
اتفاق شرم الشيخ ليس مجرد وثيقة لوقف إطلاق النار؛ بل اعتراف غير مباشر بأن الحصار لا يهزم الإرادة. لقد صمدت غزة في وجه الحرب، وانتصرت حين فرضت شروطها، وأثبتت أن الحق لا يُنتزع بالقوة؛ بل بالصبر والثبات. أما الأنظمة التي ظنَّت أن التطبيع طريق إلى الاستقرار، فقد سقطت في فخ حساباتها الضيقة، فيما خرجت المقاومة من تحت الركام بوجه أكثر صلابة وشرعية.
إنه انتصار الإرادة على القوة، وانتصار الإنسان على الخوف، واتفاق سيُذكر لا لأنه أنهى حربًا؛ بل لأنه أعاد تعريف من يملك الحق في هذه الأرض، ومن يملك الكلمة الأخيرة في وجه الاحتلال.