أحمد بن محمد العامري
يعيش العالم اليوم لحظة سقوط أخلاقي غير مسبوقة؛ حيث انكشف عجز النظام الدولي وتهاوت شعارات العدالة وحقوق الإنسان أمام آلة القتل الصهيونية، فكل ما يجري في فلسطين لا يُواجه فقط صمت المجتمع الدولي؛ بل تواطؤ منظّم تقوده قوى عظمى أسيرة لمصالحها ونفوذ لوبيات لا تسمح بمساءلة الكيان.
التناقضات الغربية باتت صارخة، فما يُقَدَّم من دعم مسلح ودبلوماسي وتحشيد معنوي لحالة أوكرانيا لا يقابله إزاء غزة سوى بيانات شجب وجدل دبلوماسي، وهذه الازدواجية تفضح أنَّ ما يُسمى بالقيم الإنسانية يتبدّل حسب الجغرافيا والخصم. رأينا الغرب يهتف بوحدة الصف ضدّ غزو أوكرانيا ويرفع أعلامها في كل محفل رسمي وشعبي ويتجمهر للدفاع عنها إعلاميًا وسياسيًا، بينما تُقمع مظاهر التضامن مع غزة ويُعامل من يرفع العلم الفلسطيني أو يناصر المدنيين كطرف خارجي أو معيق لأمن النظام الدولي المزعوم؛ هذا الكيل بمكيالين يوضح أن المعايير ليست مبنية على الحقوق؛ بل على التحالفات والمصالح.
الأمم المتحدة ومحاكمها لم تكن بعيدة من هذا الانحياز؛ فكم من قرارات تُجمّد وكم من تحقيقات تُؤجّل بسبب فيتو أو ضغوط مالية وسياسية، حتى بدا أن محكمة العدل ومحكمة الجنايات تقفان عاجزتين أمام جرائم تُبثّ على الهواء لأنَّ العدالة هناك تُقاس بنفوذ الدول وتنفذ بانتقائية ما ينفذ من أحكام أو مذكرات اعتقال، لا بمدى جرح الضحايا. وليس أدلّ على هشاشة هذا الإطار من أن المبادئ تُطبّق انتقائيًا: في حالة يُرفع بشأنها السقف الإعلامي وتُنشَر العلامات التضامنية علنًا تُعامل بالجدية والفعاليات، وفي حالة أخرى تُقمع الرموز والنصرة وتُحمّل شعوبًا مسؤولية غضبها من ظلم مباشر.
ولا يقتصر الخذلان على الخارج؛ فالأنظمة العربية التي هرولت نحو التطبيع وخيّرت المصالح الاقتصادية على دماء الأمة، والسلطة الفلسطينية التي أركنت التنسيق الأمني فوق خيار المقاومة، شكّلا معًا لوبيات داخلية سهّلت للحصار والقمع أن يستمرّ بلا رادع، وفي هذه الخانة أيضًا دروس تاريخية مؤلمة: كم من مجتمعات وثقت يومًا بوعود الحماية الغربية ثم سُمِح لها بتسليم أدوات مقاومتها في لحظات حاسمة؟ تذكّرنا مأساة البوسنة وسريبرينيتسا كيف أن وعود المجتمع الدولي بحماية المدنيين وبتقييد مسلّحي الدفاع المحليين أدت إلى ترك مدن وقرى عرضة لمجازر ممنهجة حين سُلِّمت الأسلحة أو نُزع عنها الحماية مما مكن الصرب من تنفيذ المذابح دون رادع؛ هذه الذاكرة التاريخية يجب أن تقرأ بعين التحذير حين يُطلب اليوم من الفلسطينيين التخلي عن سلاحهم في حين يبقى سلاح المستوطنين ومليشياتهم مرخّصًا لها ولهم الحماية.
المُطبِّعون العرب لم يكتفوا بصمت ديبلوماسي؛ بل شاركوا عمليًا في تبييض صورة الاحتلال وشرعنته داخل فضاء عربي قدّس سابقًا قضية فلسطين، وهذا خذلان مزدوج: شعب يُقصف وقيادات تتبادل المصالح الاقتصادية بدلًا من فتح المعابر وإرسال الإمدادات وكسر الحصار، وأمة تتفرّق بين بيانات إدانة لا تزلزل موازين القوى وبين حسابات داخلية تُغني الاسترضاء على الكرامة.
أما الحديث عن "نزع سلاح المقاومة" فهو نفاق بحد ذاته، ما لم يُسبق بمطالبة نزع سلاح المستوطنين وتجريدهم من القدرة على ارتكاب المجازر التي لا تقل فظاعة عن مجازر جيش الاحتلال الصهيوني؛ فالمعادلة الحقيقية للسلام لا تبدأ بتقديم الضحية بلا وسيلة دفاع، بل بتطبيق مبدأ المساواة في الحماية والعدالة.
العالم اليوم فعلًا في قبضة الصهاينة ليس لأنهم وحدهم يملكون القوة العسكرية، بل لأنهم استولوا على أدوات التأثير في القرار الإعلامي والاقتصادي والدبلوماسي، واستثمروا ذلك لحماية مشروع توسعي لا يهمه سوى السيطرة، ومع ذلك، يجب ألا يغيب عنَّا أن قوة الاحتلال قائمة على أطر دولية ومصالح متقلبة، وأن التاريخ عرف كيف تنهار إمبراطوريات الظلم أمام إرادة الشعوب واندفاعة الضمائر الحية. ستبقى غزة شاهدة على أن الكرامة لا تُشترى، وأن المقاومة -بكل أشكالها التي تختارها الشعوب- تبقى آخر صوت للحق في زمن الخنوع، وحين يتحرك ضمير العالم ويقاطع ازدواجية المعايير سيكون ذلك اليوم الذي تُنكسر قبضتهم قبل أن تتحرر فلسطين، لأن حرية العالم تبدأ من كسر قيود القدس.