بدر الحبسي
تتدلّى عَناقيدُ العِنبِ، يَتسلَّلُ فيها اليَباسُ، تَشكو العُذوقُ جُذوعَ نَخلَتِها، والقلعةُ تدمعُ مَزاريبُها، وساقِيةٌ تَرقُبُ ماءَ فَلجِها أن يأتي، فلا يأتي. ١٢٠ عامًا، لحيةٌ بَيضاء، عصًا، وفارسٌ ترجَّلَ عن صَهوتِه، وغُروبٌ ليسَ بعدهُ شُروق. ذلك أبي الذي رحل، لكنَّ سِرَّ رحيله يَكمُنُ في البقاء.
تتلعثمُ الكلماتُ في فمي، وقلبي الذي لطالما نبضَ فرحًا لرؤيته، حزينٌ على نظرةٍ أخيرةٍ ووداع. من أين أبدأ؟ وإلى أين أنتهي؟ من "الشوار" ممشى الحياة، أم "نطالة" درب النجاة، أم "المسفاة" مهجع النقاء، فـ"الطويلة" السكينةُ والهناء، أم "الخطم" ملجأُ جسدٍ نحيلٍ ينشدُ الرخاء. ذلك أبي، والطبيعةُ التي سكنَها وسكنَته.
أحمد بن سعود بن سيف الحبسي، ليسَ عبورًا في الزمن، بل كتابٌ صفحتُهُ مليئةٌ بالعطاء؛ يافعًا في عهدِ السلطان فيصل بن تركي، فَتًى في ساحاتِ تيمور، شابًا يجوبُ البلادَ في حقبةِ سعيد، وشيخًا أثيرًا عندَ سلطانِ النهضةِ المباركة، لأعزِّ الرجالِ وأنقاهم، قابوسِ عُمان، وضوءَ وجودٍ لنهضةِ هيثمَ المُتجددة، التي لا تتركُ أصالتها، ولا تستغني عن رجالِها الأوفياء. ذلكَ أبي، في جوارِ السلاطينِ العظماء.
وريثُ الشيوخ، وسليلُ المجدِ والشموخ، لكنه كذلك عنوانُ الكفاحِ والرسوخ، تعلّمَ القرآنَ والفقهَ والسيرةَ في الوطنِ العزيز، وأكملَ مشوارَه في العلمِ والتعليمِ بالجزيرةِ الخضراءِ في القارةِ السمراء. شجاعٌ في المواجهة، حليمٌ من البسطاء، فيضُ يديه كالسحابِ دائمِ المطر، كعبةٌ للناسِ تحجّه لقضاءِ الحوائج، مدرسةٌ في العاداتِ والتقاليدِ الأصيلة، فصلُ الخطابِ بين الخصوم، وابتسامةُ السعادةِ بين الأهلِ والأصحابِ والأحباب، واليدُ البيضاءُ التي لا تعلمُ شمالُهُ ما أنفقتْ يمينُه. ذلك أبي، بل بعضٌ منه، وما خفيَ أكبرُ من أن تختزلَه السطور.
في الرَّوضةِ، القريةِ الحَسناء، كان أبي مَرجِعَ التأريخِ وأنشودةَ الأيّام، ألبسَنا –نحنُ أبناءَه وبناتِه– ثوبَ الإنسانِ على فِطرةِ الحُبِّ والخير. "ستةَ عشر" نجمًا وقمرا، بيتٌ كبيرٌ وقلبٌ أكبر، تواضعًا في الأرضِ يَبلُغُ السماء، الحِكمةُ في تجاعيدِ يدِه، والسَّمتُ في تفاصيلِ وجهِه، والصَّبرُ… تاللهِ ما الصبرُ إلّا في أبي. فِراشُ مرضِه لم يَنكفِئْ عليه، وبصيرتُه لم تنطفِئْ عن بصرِه. ذلك أبي، الإنسانُ، والأبُ الكبير.
لحظةُ الوداعِ هادئةٌ تُثيرُ العواصف، ذكرياتُ اثني عشرَ عقدًا ونَيِّف، خطَّها العقلُ والعواطف. وها أنا أقفُ على عتباتِ سيرتِك، أُردِّدُ هذه الكلمات: سلامُ الله عليكَ يا أبي، يومَ وُلدتَ، ويومَ مِتَّ، ويومَ تُبعثُ في جنّاتِ الخُلود بإذنِ الله. وما الحُبُّ إلا حُبُّ أبي، وما الرثاءُ إلا فيكَ، وسنمضي على أَثَرِك حامدين، شاكرينَ اللهَ على هِبةٍ عظيمة؛ هي أنت. أبي… روضةُ المكارم
.