سُلطان بن خلفان اليحيائي
"وَلَا تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ" (البقرة: 35).
في البدء كانت الوصية واضحة صريحة لا تحتمل تأويلًا. حذّر اللهُ أبانا آدم وأُمّنا حوّاء من الاقتراب من شجرةٍ بعينها في الجنة، غير أنّ وسوسة إبليس أغراهما، فمدّا أيديهما، فأكلا منها، فبدت لهما سوآتهما، وكان الخروج من الجنّة أوّل دروس التاريخ. هكذا بدأ الصراع بين الطاعة والغواية، بين الوعد الإلهي ودهاء العدو، منذ أوّل فجر للبشر.
اليوم، وبعد آلاف السنين، يتكرّر المشهد بملامح جديدة؛ لم تعد الشجرة شجرة خُلد، بل وعودٌ براقة بالتحالفات العسكريّة، واتفاقيّات "الأمن المشترك"، وصفقات أسلحة تُكدّس المليارات في خزائن الغرب، بينما تُفرّغ من مضمونها ساعة الامتحان.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ" (المائدة: 51).
جاء التحذير الإلهي صريحًا، ومع ذلك تسير أنظمةٌ عربيّة وإسلاميّة في درب الولاء السياسي والأمني للغرب، وكأنّ الآية لم تُتْلَ قط. تُقيم قواعد عسكريّة، وتنسج خيوط التعاون مع واشنطن ولندن وباريس، وتفتح الأبواب أمام "الشراكات الاستراتيجية"، ثم تتهاوى أمام أول اختبار.
التطبيع مع الكيان الصهيوني ليس سوى شجرة خُلد أخرى؛ يغري الأنظمة بثمرٍ كاذب اسمه "الازدهار والسلام"، بينما جذوره سُمّ زعاف. يبرمون الاتفاقيات، يفتحون السفارات، يعرضون صفقات الغاز والتكنولوجيا، ثم يصحون على إبادة تُبثّ على الهواء، وما الهجوم على دوحة قطر من العقلاء ببعيد، ولكنهم لا يملكون سوى التبرير أو الصمت.
إنّه مشروعٌ تتخفّى خلفه نوايا الكيان الصهيوني، وما يؤمن به من «تلمودٍ مزيّف» يطمع في المنطقة منذ ألف عام، يتقدّم كلّما تهاوت الحواجز وسقطت الأقنعة.
إنه خذلان يتجاوز السياسة إلى المساس بالضمير، يضع الأوطان في صفّ المعتدي، ويترك دماء الأطفال في غزّة بلا سندٍ من إخوتهم في الدين والعروبة.
"فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" (القمر: 22).
في 19 سبتمبر 2025 استُخدم الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن لمنع قرار بوقف إطلاق النار في غزة، ليُضاف إلى نحو 46 نقضًا أمريكيًا عطّل قرارات تدين الاحتلال أو تحمي الشعب الفلسطيني؛ كلّها شواهد على انحياز صارخ، وعلى أنّ الدم العربي لا يساوي حبر بيان في ميزان السياسات الأمريكية.
في القمّة الطارئة التي استضافتها قطر منتصف سبتمبر 2025، استنكر القادة العرب والإسلاميون "الهجوم الغاشم" على أراضيها، فيما أوصى بيان خليجي بتفعيل "آلية الدفاع المشترك" لدول الخليج، مع إعلان اجتماعات مرتقبة للقيادة العسكرية الموحدة. غير أنّ أي منظومة أمنية لن تُكتب لها الحياة ما لم تشمل إيران، الطرف الوحيد في الإقليم الذي لم ينحنِ للغطرسة الصهيو-أمريكية؛ بل ردّ بما جعل العدو يحسب له ترليون حساب؛ أما استبعاده فلن يخرج المشروع عن رؤية "الشيطان الأشقر"، وسيبقى من لحظته الأولى سلامًا عليه.
لا ريب أنّ كثيرًا من الشعوب بريئة من الصفقات المجحفة، والمعاهدات الآثمة، لكن البراءة لا تُعفي من واجب التعبير الوطني المسؤول، ورفع الصوت، للتعبير عن عدم الرضا؛ غير أنّ الطريق لا ينتهي عند الغضب وجلد الذات، بل على الشعوب أن تبحث عن السبل السلميّة للتفاهم مع حكوماتها، عبر الحوار الوطني، والمجالس القائمة في دولها، وأن تتمسّك بالأمل فلا تيأس ولا تقنط من ابتكار الوسائل المشروعة لصون قضاياها والذود عن كرامتها.
ونختم بالحكم الإلهي.. ولا فلسفة في التأويل، إذ يقول الحق جل في علاه: "وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ" (البقرة: 120).
القصّة بدأت من شجرةٍ أغوت أبوينا، وما زالت تتكرّر كلّما غلّفت المعصية ببريقٍ مزيّف. اليوم، تُعرض "شجرة خُلد" جديدة على أنظمة العرب والمسلمين: تحالفات، أسلحة، اتفاقيات، تطبيع، وكلّها وعدٌ بالخلود في السلطة والرخاء. أمّا الإصرار على تكرار خطيئة أبينا آدم - مع أنّه تاب وندم - فلن يورّث للأجيال القادمة إلّا سقوطًا جديدًا ووصمةَ خذلانٍ لا تُمحى، وسيحمّلنا أمام الله وأمام التاريخ تبعة التفريط في وصايا السماء وأمانة من سيأتون بعدنا.
وطريق الحق المبين ليس بحاجة لإعدادات أو برمجيات "فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة: 38).