عُمان تعزز اقتصادها بحزمة حلول مبتكرة ومستدامة

 

 

محمد بن علي العريمي

mahaluraimi@gmail.com

 

في خطوة استراتيجية متكاملة وصلت ذروتها في أواخر أغسطس 2025، قدمت سلطنة عُمان حزمة من الإصلاحات والسياسات الاقتصادية الموجَّهة إلى جذب رأس المال طويل الأمد وبناء بيئة عمل مستدامة وقادرة على المنافسة الإقليمية. أبرز هذه الخطوات إطلاق برنامج "الإقامة الذهبية" الذي أُعلن رسميًا في 31أغسطس 2025 كآليةٍ لجذب المستثمرين وأصحاب الخبرات، إلى جانب حزمة من الاتفاقيات الاستثمارية المحلية والدولية التي عززت ثقة الأسواق بإمكانات السلطنة.

ما يجري في عُمان اليوم يتجاوز تبنّي أداة واحدة؛ إنِّه تصميم منظومة متكاملة: إقامة طويلة الأمد للمستثمر، وتيسير نقل الملكية وعمليات تأسيس الشركات، وتجارب ناجحة في قطاع التعدين، وتعزيز دور صندوق الدولة في دعم المشاريع الاستراتيجية. هذه السياسة تتماشى مع أهداف رؤية "عُمان 2040" في تنويع الاقتصاد ورفع قيمة المحتوى المحلي، وتحوّلها تدريجيًا من اقتصاد مُعتمد على الإيرادات النفطية إلى اقتصاد مُتنوِّع ومستدام.

وقد صِيغ برنامج الإقامة ليمنح المستثمرين وأسرهم إقامة طويلة (خمس أو عشر سنوات بحسب المعايير)، مع متطلبات استثمارية واضحة، ومن بينها حد أدنى للاستثمار يُقدَّر بـ200 ألف ريال عُماني في مسارات معينة؛ ما يجعل من العُمانيين مؤيدين لوجود استثمار أجنبي مستقر وقابل للتوارث. هذا النوع من الإقامات ليس هدفه فقط تحفيز الشراء العقاري أو تدفق رؤوس الأموال؛ بل ضمان بقاء المستثمرين لفترات كافية لتطوير مشاريع ذات قيمة مضافة وخلق فرص عمل مستدامة.

النجاح التنفيذي لسياسات جذب الاستثمار يتكئ على قدرة المؤسسة المالية الوطنية على دعم مراحل النمو. ولعلّ ما يُجلّي ذلك هو الأداء المالي للاستثمارات الحكومية؛ إذ أعلنت تقارير رسمية أن جهاز الاستثمار العُماني أغلق 2024 بأصول تُقدَّر بنحو 53 مليار دولار وصافي أرباح يناهز 4.12 مليار دولار، ما مكّن الجهاز من تحويل موارد مهمة لخزينة الدولة وتعزيز قنوات تمويل المشروعات الاستراتيجية. وهذا المستوى من السيولة والربحية يعطي عُمان ميزة حقيقية في تمويل شراكات خارجية ومحلية دون الاعتماد الكلي على الدين أو الأسواق الخارجية.

وعلى الصعيد المحلي، تحرَّكت السلطنة بسرعة لفتح آفاق التعدين والمعالجة؛ ففي أغسطس 2025 أُبرمت اتفاقيات استكشاف ومعالجة في محافظتيْ البريمي والوسطى بقيمة إجمالية تقارب 192 مليون ريال عُماني (نحو 500 مليون دولار) لتطوير مشاريع نحاسية وكرومايت وصناعات معالجة معدنية، كما دخلت السلطنة شراكات خارجية في مجال الذهب (بوركينا فاسو نموذجًا) لتعزيز القيمة المضافة وسلاسل الإمداد. تُعد هذه التحركات خطوة محبذة نحو بناء قطاع صناعي مرتبط بالموارد المحلية ويخلق وظائف متخصصة ومستدامة.

لكن لماذا هذه الخطوات ذكية وفعالة؟ أولًا لأنها تحول المستثمر من زائر إلى شريك؛ الإقامة الطويلة توفر وقتًا كافيًا لاستثمار ميزات السوق وبناء مشاريع ربحية واجتماعية. ثانيًا، وجود صندوق سيادي قوي وممول محليًا (جهاز الاستثمار العُماني) يُقلِّل مخاطر الاعتماد على رؤوس أموال قصيرة الأجل. ثالثًا، الانتقال من مجرد تصدير خام إلى سلاسل قيمة محلية في التعدين والزراعة والتصنيع يدعم الأمن الاقتصادي والتوظيف المستدام. رابعًا، الانفتاح على أسواق الهند وإفريقيا يزيد من تنوع الشركاء ويقلّل من تركّز المخاطر الإقليمية.

إنَّ نجاح هذه الرؤية يتطلب استمرار تنفيذ إصلاحات تكميلية: تبسيط الإجراءات الإدارية الرقمية (منصات تسجيل الشركات ونقل الملكية)، وضمان بيئة قانونية شفافة للمستثمرين، وسياسات واضحة لتوطين المهارات وتدريب الشباب، وتفعيل معايير الحوكمة والبيئة والاستدامة (ESG) لجذب صناديق كبرى تبحث عن استثمارات مسؤولة. كما أن ربط المشروعات الكبرى بسلسلة توريد وطنية يضاعف الأثر الاقتصادي ويُحوّل المشاريع إلى روافد للتنمية المحلية.

وختامًا.. إنَّ ما حققته سلطنة عُمان خلال السنوات الأخيرة من خطوات اقتصادية نوعية؛ كإطلاق برنامج الإقامة الذهبية، وتوسيع الاستثمارات الخارجية في الهند وإفريقيا، وتدشين مشاريع تعدين ومُعالجة محلية، ليس إلّا بداية لمسار طويل يهدف إلى بناء اقتصاد مستدام ومتوازن. ومع ذلك نؤكد أن المستقبل يحمل الكثير من التحديات، من بينها تقلبات أسعار الطاقة العالمية، وتسارع المنافسة الإقليمية على استقطاب الاستثمارات، والتغيرات المرتبطة بالتحول الرقمي والاقتصاد الأخضر، غير أن سلطنة عُمان- بما تمتلكه من رؤية واضحة مُستندةً على مُستهدفات "عُمان 2040" وأدوات تنفيذية ذكية مثل جهاز الاستثمار العُماني- تبدو قادرة على تحويل هذه التحديات إلى فرص.

وعلى المدى القريب، يُتوقع أن تستقطب عُمان مزيدًا من الاستثمارات في مجالات التكنولوجيا المالية والطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، إلى جانب نمو قطاع السياحة المستدامة بفضل تسهيلات الإقامة الذهبية. كما أن تعميق الشراكات مع الهند وإفريقيا سيُسهم في تعزيز الأمن الغذائي وتنويع سلاسل الإمداد.

أما من زاوية الاقتراحات؛ فيبقى التركيز على 3 محاور رئيسية: أولًا، الاستثمار المستمر في رأس المال البشري عبر التدريب والابتكار؛ بما يضمن رفع إنتاجية الشباب العُماني. ثانيًا، تعزيز بيئة الأعمال الرقمية وتبسيط الإجراءات لخفض التكاليف على المستثمرين. ثالثًا، ترسيخ ممارسات الاستدامة والحوكمة البيئية والاجتماعية؛ لجعل السلطنة وجهة مُفضَّلة لصناديق الاستثمار العالمية. وبهذه الأدوات، تمضي عُمان بخطى ثابتة نحو مستقبل اقتصادي أكثر قوة وتوازنًا.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة