ليانغ سوو لي **
تنطلق يوم الخميس (25 سبتمبر 2025) في مدينة هانغتشو فعاليات الدورة الرابعة لمعرض التجارة الرقمية العالمي، والذي سيستمر حتى التاسع والعشرين من الشهر نفسه. يمتد المعرض على مساحة 155 ألف متر مربع، ويشارك فيه أكثر من 1700 عارض، من بينهم أكثر من 70 شركة مدرجة على قائمة "فورتشن 500"، فيما يُتوقع أن يستقطب أكثر من 10 آلاف من رجال الأعمال الدوليين. وستكون الإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا ضيفتا شرف المعرض، بينما تشارك أكثر من 30 منظمة دولية، من بينها مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية. ولا يقتصر هذا الحدث على عرض أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا الرقمية، بل يمثل أيضًا نافذة مهمة للصين لتقاسم خبراتها التنموية وتوسيع آفاق التعاون العالمي.
أصبحت الصين اليوم قوة رئيسية في دفع التجارة الرقمية العالمية، وهو إنجاز لم يكن ليتحقق لولا البنية التحتية القوية التي أرستها خلال فترة "الخطة الخماسية الرابعة عشرة". فعلى مدى الأعوام الخمسة الماضية، عززت الصين بناء شبكات الجيل الخامس، والنطاق العريض "جيجابت"، ونظم الحوسبة المتقدمة. وحتى يونيو 2025، بلغ إجمالي عدد محطات الجيل الخامس 4.55 مليون محطة، أي خمسة أضعاف عددها في عام 2020. كما تجاوز عدد مستخدمي النطاق العريض "جيجابت" 226 مليونًا، بزيادة قدرها 34 ضعفًا، فيما احتلت الصين المرتبة الثانية عالميًا من حيث إجمالي القدرة الحاسوبية. هذه الاستثمارات لم توسع نطاق التغطية فحسب، بل أمدّت الاقتصاد بديناميكية جديدة للتحول الرقمي. ويبرز في هذا السياق مشروع "الحوسبة الشرقية لدعم الغرب"، الذي أعاد توزيع الموارد الحاسوبية على نحو متوازن، مما دعم التنمية الإقليمية المتناسقة وأكد على الأهمية الاستراتيجية للبنية التحتية الرقمية باعتبارها قوة إنتاجية جديدة.
ومع ترسيخ "القاعدة الصلبة"، برزت الحاجة إلى التطبيقات العملية لإطلاق القيمة الكامنة. ففي المعرض المرتقب، ستعرض شركات التكنولوجيا الفائقة في هانغتشو أحدث ابتكاراتها، من بينها الروبوت البشري G1 الذي يضم أكثر من 20 محركًا مفصليًا قادرًا على أداء حركات معقدة، واليد الاصطناعية الذكية Revo2 المزوّدة بمستشعرات متعددة قادرة على تمييز صلابة الأجسام وملمسها بدقة، والروبوت الرباعي الأرجل "الفهد الأسود 2" الذي سجل رقمًا قياسيًا عالميًا بسرعة بلغت 8.89 متر/ثانية. هذه العروض ليست مجرد استعراض للتقنيات، بل تعكس أن الابتكار الرقمي بات ينتقل بسرعة من المختبرات إلى التطبيقات الصناعية والحياتية.
وقد توسعت التطبيقات الرقمية عمقًا واتساعًا. ففي فترة "خطة الخماسية الرابعة عشرة"، بلغ حجم صناعة البيانات في الصين 5.86 تريليون يوان، بزيادة نسبتها 117%، مقارنة بنهاية "خطة الخماسية الثالثة عشرة". ففي القطاع الزراعي، طورت بعض الشركات أنظمة ذكية للتسميد رفعت الإنتاج بنسبة 5.5%. وفي القطاع الصناعي، أسهمت النماذج الكبيرة في رفع كفاءة قرارات الحفر بنحو 15 ضعفًا. أما في قطاع الخدمات، فقد مكّنت بيانات النقل البري الشركات من تحقيق ربط شبه فوري بين السائقين وأصحاب الشحنات، ما عزز كفاءة تشغيل المركبات بأكثر من 30%. هذه الأمثلة تؤكد بوضوح أن البيانات أصبحت محركًا محوريًا لترقية الصناعات وتحسين إدارة المجتمعات.
وعلى صعيد الخدمات العامة، أسهم التطور الرقمي في رفع مستوى الخدمات الاجتماعية بشكل ملحوظ. فقد بلغ عدد مستخدمي الإنترنت في الصين 1.123 مليار نسمة بنسبة انتشار بلغت 79.7%. كما تجاوزت خدمات المستشفيات الإلكترونية مليار استشارة سنويًا، واستفاد 560 مليون شخص من التسوية المباشرة للتأمين الصحي عبر الأقاليم، فيما تجاوز عدد مستخدمي البطاقات الإلكترونية للضمان الاجتماعي 1.07 مليار شخص، أي ما يفوق 75% من السكان. وفي التعليم، أطلقت الصين أكبر منصة تعليمية ذكية في العالم من حيث الحجم والموارد. وتؤكد هذه الإنجازات أن التكنولوجيا الرقمية أصبحت ركيزة أساسية للخدمات العامة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
يقف خلف هذه التحولات ابتكار مؤسسي متواصل وتحسين في منظومة الحوكمة. فقد عملت الصين على بناء سوق وطنية موحدة للبيانات، وأقرت سياسات واضحة لحقوق البيانات وتداولها وتوزيع عوائدها، مما أسهم في ظهور بيئة أكثر شفافية وفعالية. ففي عام 2024، تجاوز عدد شركات البيانات 400 ألف شركة، فيما توسعت أنشطة منصات التداول بشكل ملحوظ. وهذه التجربة لم تُنشّط السوق المحلية فحسب، بل قدمت أيضًا نموذجًا عمليًا للتعاون الدولي في مجال البيانات.
وعلى المستوى العالمي، تدعو الصين إلى تضييق الفجوة الرقمية وتعزيز التوافق على القواعد. ففي هذا المعرض، ستكون مسألة وضع معايير للتجارة الرقمية وتدفق البيانات عبر الحدود من أبرز الموضوعات. كما تعمل الصين على الانضمام إلى اتفاقية الشراكة الاقتصادية الرقمية (DEPA) واتفاقية الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ (CPTPP)، إضافة إلى تعميق التعاون الرقمي ضمن مبادرة "الحزام والطريق"ومجموعة "بريكس"، ومنظمة شانغهاي للتعاون، في تعبير واضح عن انفتاحها واستعدادها للمساهمة في الحوكمة الرقمية العالمية.
أما بالنسبة للعالم العربي ودول الجنوب العالمي، فإن التجربة الصينية تقدم 3 رسائل أساسية: أولًا، إن نجاح التحول الرقمي يتطلب تعزيز التخطيط الاستراتيجي وربط بناء البنية التحتية بالأنظمة المؤسسية. ثانيًا، يجب دمج التكنولوجيا الرقمية بعمق مع الاقتصاد الحقيقي وإدارة المجتمع لضمان تحويلها إلى قوة دافعة للتنمية ورافعة لرفاهية الشعوب. ثالثًا، إن مبدأ "الانفتاح والمشاركة" الذي تنتهجه الصين يوفر للدول النامية فرصة مهمة للمشاركة في التعاون الرقمي العابر للحدود واغتنام فرص النمو الجديدة.
من هذا المنطلق، لا يُتوقع أن يكون معرض هانغتشو مجرد ساحة لعرض أحدث التقنيات؛ بل مختبرًا للتعاون الدولي في الاقتصاد الرقمي؛ فالصين، من خلال مسارها الممتد من "البنية التحتية" إلى "التطبيقات"، قدَّمت نموذجًا عمليًا يمكن للجنوب العالمي الاستفادة منه. ولعل الاقتصاد الرقمي سيُشكِّل في المستقبل الجسر الجديد الذي يربط بين الأمم ويدفعها نحو تنمية مشتركة ومكاسب متبادلة.
** إعلامية صينية