الصلت الخروصي **
في عصر العولمة والتطورات الاقتصادية المُتسارعة، تتقدَّم سلطنة عُمان بخطوات واثقة لربط الشركات والمؤسسات الوطنية بالأسواق العالمية. وتماشيًا مع الأهداف المرسومة في رؤية "عُمان 2040"، تُركِّز البلاد على تنويع اقتصادها عبر تطوير القطاعات غير النفطية وتعظيم نموها، ولا سيما قطاعات الخدمات اللوجستية، والتصنيع، والتصدير.
وعلى الرغم من هذا الزخم، تُواجِه الشركات العُمانية تحديات مُتعدِّدة تعوق نجاحها في التوسع عالميًا. وتشمل هذه التحديات فجوات السيولة النقدية، والمُعاملات والإجراءات المُعقدة، والمخاطر ذات الصلة. وللتغلُّب على هذه التحديات، تعمل البنوك الحديثة على توظيف الابتكار ودعم الأولويات الوطنية عبر فتح آفاق جديدة تُمكِّن الشركات من تجاوز التحديات والتعقيدات التجارية. ومن خلال تطبيقه بشكل واعٍ وعبر استراتيجية دقيقة، يمكن أن يتحول التمويل التجاري من مجرد أداة لإتمام المعاملات إلى مُحرك يدعم نمو الشركات العُمانية ويُعزز تنافسيتها بثقة على الساحة العالمية.
لم يعد التمويل التجاري مجرد أداة مالية إدارية؛ بل أصبح رافدًا مُهمًا للنمو والتطور؛ حيث يتيح 3 مميزات أساسية؛ ألا وهي: دعم السيولة، والحدّ من المخاطر في المعاملات الدولية، وتبسيط إدارة الوثائق والمستندات التجارية والامتثال بمعايير التجارة الدولية. وفي عام 2024، بلغ حجم التجارة العالمية في مجال السلع والخدمات التجارية ما يقارب 31.5 تريليون دولار أمريكي بنموٍ بنسبة 4% مقارنة بعام 2023. ويؤكد هذا النمو الفرص الضخمة التي يزخر بها القطاع والتعقيدات التي من المهم حلها للشركات للتوسع عالميًا.
وبالنظر لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يُخصَّص 8% فقط من إجمالي القروض المصرفية للشركات غير الصغيرة؛ بما في ذلك الشركات المتوسطة على الرغم من دورها المُهم في تعزيز الصادرات الاستراتيجية ومشاريع البنية الأساسية. ولذا، فإنَّ سدّ هذه الفجوات المالية يُعد أمرًا أساسيًا لكي ينافس قطاع الشركات العُماني في أكبر الأسواق العالمية.
وتُعزِّز سلطنة عُمان منظومة تمويل الصادرات بوتيرةٍ متسارعةٍ لدعم الشركات الكبرى وتمكينها من التوسُّع في الأسواق الإقليمية والعالمية. وبينما يواصل برنامج تمويل صادرات الشركات الصغيرة والمتوسطة لعام 2024 تركيزه على الشريحة الأصغر، تستفيد الشركات المتوسطة والكبيرة بشكل متزايد من حلول تمويل رأس المال العامل وتأمين الائتمان التجاري المقدَّمة عبر "كريدت عُمان". وخلال الربع الثالث من عام 2024 وحده، بلغت قيمة معاملات التصدير والمعاملات المحلية المؤمَّنة 272.8 مليون ريال عُماني، مسجلةً نموًا بنسبة 5% على أساس سنوي؛ مِمَّا يوفِّر سيولة حيوية ويضمن تغطية المخاطر اللازمة لتنفيذ العقود على نطاق أوسع وبثقة أكبر.
وتتجه البنوك اليوم إلى تجاوز الأدوات التقليدية؛ حيث تسعى إلى تقديم حلولٍ تجاريةٍ أكثر تطورًا وذكاءً، تشمل خطابات اعتماد رقمية، ومعاملات مدعومة بتقنية سلسلة الكُتَل "بلوك تشين"، ومنصات عصرية للتكنولوجيا مالية قابلة للتحديث وتخدم متطلبات الشركات بما يواكب التطورات في الأسواق.
ومن المتوقع أن يشهد سوق التمويل التجاري العالمي- الذي تُقدَّر قيمته بنحو 9.7 تريليون دولار أمريكي في عام 2024- نموًا سنويًا مُركَّبًا بنسبة 3% حتى عام 2034، مدفوعًا بزخم توظيف للتقنيات الرقمية ودمج حلول سلسلة الكتل. أما تمويل سلسلة التوريد، فيُقدَّر حاليًا بنحو 275 مليار دولار سنويًا، مع فرص كبيرة لم يتم الاستفادة منها، خاصةً لدى المُشترين من كبرى الشركات.
وبدأت بالفعل الشركات العُمانية تجني ثمار التحول الرقمي، وهو ما يظهر جليًا من خلال المشروع التجريبي الذي نفّذه بنك "إتش إس بي سي عُمان" بالتعاون مع مجموعة النفط العُمانية (آنذاك) في عام 2019، تم خلاله استخدام منصة تعتمد على تقنية سلسلة الكتل لمعالجة خطاب اعتماد رقمي، وأُنجزت المعاملة خلال 24 ساعة فقط، مقارنةً بالإطار الزمني التقليدي الذي يتراوح بين 5 و10 أيام.
ويتميَّز هذا النوع من المُعاملات المُستَنِدة إلى التقنيات المُتقدِّمة، بأنه يُقلِّل من الاعتماد على المعاملات الورقية، ويَحِد من التأخيرات المُرتبِطة بسلاسل الشَحْن، ويُوفِّر سجلات رقمية آمنة وموثوقة وغير قابلة للتلاعب؛ ما يُعزِّز الكفاءة والثقة في التعاملات التجارية الدولية. وتُسهم منصات التكنولوجيا المالية في تسهيل الوصول إلى خدمات التمويل، من خلال ربط الشركات مباشرة بشبكات مُتعدِّدة من المُقرضين؛ مما يُتيح حلولًا أكثر مرونة؛ مثل: تمويل أوامر الشراء وفواتير الخصم. وهذه المنصات تُعيد تعريف تجربة التمويل التجاري، خاصةً للشركات التي تحتاج إلى حلول سريعة ومُخصّصة. كما يفتح التمويل التجاري المُستدام آفاقًا جديدة؛ حيث إن خطابات الاعتماد الخضراء، والقروض المرتبطة بالاستدامة، تَمنح الشركات إمكانية الوصول إلى تمويل مُخصَّص، وفي نفس الوقت دعم التزاماتها في مجالات الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية؛ ما يُعزز قدرتها التنافسية ويُرسّخ مرونتها على المدى البعيد.
ويُعد تمويل التجارة عنصرًا أساسيًا في تعزيز النمو الاقتصادي في سلطنة عُمان، خاصةً بالنسبة للشركات العاملة في قطاعات حيوية مثل: الخدمات اللوجستية والتصنيع والتصدير؛ ففي هذه القطاعات، يُمثِّل الوصول إلى حلول تمويل مرنة وفعَّالة أمرًا مُهمًا لتمكين الشركات من توسيع عملياتها والدخول بسلاسة في الأسواق الإقليمية والعالمية.
وفي قطاع الخدمات اللوجستية، تُسهم استثمارات عُمان في الموانئ والمناطق الحرة في زيادة حركة التجارة، ما يتطلب أدوات تمويل تدعم الاستخدام الفعّال للبنية الأساسية وتُعزز تدفقات الشحن عبر الحدود. أمَّا في قطاع التصنيع، يوفّر التمويل التجاري السيولة اللازمة لاستيراد المواد الخام وتصدير المنتجات مما يدعم استقرار التدفق النقدي في ظل التعقيدات والتغيرات التي تشهدها سلاسل التوريد.
كما إنَّ للصادرات دورًا محوريًا في دعم جهود عُمان لتنويع اقتصادها، وتستفيد الشركات المُصدِّرة من حلول مُتخصِّصة مثل تمويل ما قبل الشحن، وتأمين ائتمان الصادرات، وضمانات المُشتري؛ وهي أدوات تُمكِّنها من تقديم حوافز وشروط أكثر تنافسية، وتحِد المخاطر التجارية، وتساعدها على الدخول إلى أسواق جديدة بثقة. ومن خلال دعم هذه القطاعات الحيوية، يُسهم تمويل التجارة بشكل مباشر في تحقيق مستهدفات رؤية "عُمان 2040"، عبر دعم التنويع الاقتصادي، وتوفير فرص عمل مُستدامة، وتعزيز مكانة سلطنة عُمان وتنافسيتها عالميًا.
ويُعد توسُّع "المشرق" في سلطنة عُمان مثالًا واضحًا على الدور المُهم الذي تُؤدِّيه البنوك كمحركات فعَّالة للتنمية الوطنية؛ فبفضل خبراته الإقليمية الكبيرة، يُقدِّم "المشرق" حلولًا مُبتكرة للتمويل التجاري تتماشى مع أولويات سلطنة عُمان في مشاريع استراتيجية مثل ميناء الدقم، وشبكة السكك الحديدية الوطنية، إلى جانب دعمه للقطاعات المُستقبلية كالحديد الأخضر والهيدروجين الأخضر من خلال حلول التمويل المستدام.
ويرتكز هذا التوجُّه إلى مبدأ أكثر شمولية ألا وهو الدور الكبير الذي تُمارسه البنوك المُتوافِقة مع أهداف التنمية الوطنية للإقراض، والذي لا يقتصر على الإقراض فحسب؛ بل كمحفزاتٍ لتمكين حقيقي للنمو الاقتصادي. ومن خلال دمج التكنولوجيا المالية، وتبنِّي نماذج الخدمات المصرفية المفتوحة، وربط التمويل بمبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، يواصلُ "المشرق" تعزيز النشاط التجاري، ودعم مرونة واستدامة النظام المالي في عُمان.
ويستندُ هذا النهج إلى أفضل المُمارسات الدولية؛ ففي دول مثل سنغافورة والمملكة المتحدة، أسهمت منصات التجارة الرقمية والتعديلات القانونية، ومنها "قانون الأونسيترال" النموذجي بشأن السجلات الإلكترونية القابلة للتحويل في تقليل النزاعات التجارية وتعزيز الموثوقية القانونية. كما تُجسّد الشراكة الحديثة بين "بنك إتش إس بي سي" ومؤسسة التمويل الدولية في ديسمبر 2024، هذا التوجّه العالمي من خلال تمويل تجاري بقيمة مليار دولار أمريكي تستهدف أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط؛ ما يُبرز التزام المؤسسات المالية والتنموية بسد فجوة التمويل التجاري ودعم نمو الشركات بشكل أكثر شمولًا واستدامة.
لقد أصبح التمويل التجاري الدولي جزءًا فعَّالًا ومُحرِّكًا أساسيًا للنمو، وليس مجرد أداة إدارية خلف الكواليس. ومع تطور الحلول الرقمية، وتوفير خيارات تمويل مُصمَّمة خصيصًا لاحتياجات الشركات، ومواءمة التوجهات المصرفية مع أولويات التنمية في عُمان، أصبحت السلطنة في موقعٍ يُؤهِّلها لدعم مُصدِّريها وتعزيز مكانتها في مصاف الدول الصناعية عالميًا.
ومن خلال التعاون بين مؤسسات مصرفية مثل "المشرق"، وشركات التكنولوجيا المالية، والجهات الحكومية، يُعد التمويل التجاري عاملًا أساسيًا في تعزيز المرونة الاقتصادية، وتطوير التصنيع، وزيادة القدرة التنافسية عالميًا. وفي الوقت الراهن، أصبح مستقبل التجارة أسرع وأذكى وأكثر ترابطًا، وبالفعل تؤكد سلطنة عُمان قدرتها على النجاح في مواكبة هذا التطور، مُرسِّخةً مكانتها في مُقدِّمة هذا التحول العالمي.
** الرئيس الإقليمي للمشرق في عُمان