محمد بن أنور البلوشي
الحرب ليست مجرد معارك على الأرض ولا طائرات في السماء. الحرب أعمق من كل ذلك، هي وجوه البشر التي تغيّرت، هي الأرواح التي لم تعد كما كانت، هي الدموع التي لا تجف حتى بعد أن يُعلن القادة انتهاء الحرب.
لم نشهد الحرب العالمية الأولى ولا الثانية، لكننا قرأنا عنها في كتب التاريخ، وشاهدنا صورها في الوثائق والأفلام. لكن السؤال: هل كانت الحرب تنتهي حين وُقعت معاهدات السلام؟
المؤرخ الكبير إريك هوبزباوم كتب أن القرن العشرين كان "عصر التطرف" لأن الحروب لم تترك مجالًا للحياة أن تعود إلى طبيعتها بسهولة. والفيلسوفة حنة أرندت تحدثت عن أن ما بعد الحرب ليس عودة إلى الحياة الطبيعية؛ بل إلى حياة جديدة محمّلة بذاكرة الألم، ذاكرة لا تمحى.
نرى اليوم وجوهًا تشبه تلك الحكايات القديمة، لكنها معاصرة جدًا. من حرب الخليج إلى حرب أفغانستان، من سوريا إلى غزة. ليست مجرد أخبار على الشاشات، بل قصص بشرية حقيقية. نحن نكتب ونحلل ونتفلسف، لكننا ننسى دائمًا أن هناك جانبًا مخفيًا يُسمى: الحياة ما بعد الحرب.
تأملوا المرأة التي فقدت زوجها أو خطيبها أو حبيبها. بالنسبة لها، الحرب لا تنتهي. بل تبدأ كل صباح حين تستيقظ وحدها. هذا ما أشار إليه الروائي إرنست هامنجواي الذي خاض الحرب بنفسه؛ إذ كتب أن "الحرب لا تنتهي عندما يتوقف القتال، بل حين يتوقف القلب عن تذكرها".
ثم هناك الطفل الذي فقد عائلته. من سيأخذ بيده إلى المدرسة؟ من سيقرأ له قصة قبل النوم؟ علم النفس الاجتماعي يقول إن الأطفال الذين ينجون من الحروب يعيشون صدمة طويلة الأمد تُعرف بمتلازمة "النجاة"، حيث يشعر الطفل بالذنب لأنه بقي حيًا بينما مات أحباؤه.
هذا ما نراه في رواية "الطريق" لكورماك مكارثي؛ حيث يحاول الأب أن يخلق لطفله معنى للحياة في عالم مدمّر بعد حرب غير معلومة.
الحرب الحقيقية ليست فقط تلك التي تقع خارجنا، بل تلك التي تسكن داخلنا. وعالم النفس النمساوي سيجموند فرويد كتب في كتابه "الحضارة وسلبياتها" أن الإنسان بعد الحرب يحمل داخله صراعًا بين غريزة البقاء وغريزة التدمير. فحتى لو انتهت المعارك، تبقى النفس البشرية في معركة صامتة.
إنَّ إعادة بناء المدن ليست نهاية القصة. البيت يمكن أن يُبنى بالحجارة، لكن القلب لا يُرمم بسهولة. الجدران قد تعود خلال أشهر، أما الأرواح فتحتاج إلى سنوات وربما لا تشفى أبدًا. الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو قال إن "الإنسان بعد الكارثة يحتاج أن يجد معنى جديدًا للعيش، وإلا سيفقد نفسه حتى في السلم."
الحروب تعلمنا درسًا لو كنَّا نريد أن نفهم: كل رصاصة تُطلق لا تقتل شخصًا واحدًا فقط، بل تقتل حياة كاملة كان يمكن أن تُعاش، أحلامًا لم تولد، قصص حب وصداقة وطفولة بريئة. هذا ما كتبه الروائي الروسي ليو تولستوي في "الحرب والسلام"، حين صوّر أن أكبر مأساة للحروب ليست الدماء، بل ضياع الحياة التي كان يمكن أن تكون.
ومع ذلك، تستمر الحياة. الناس يعودون إلى أعمالهم، الأطفال إلى مدارسهم، المدن تُبنى من جديد. لكن ذلك لا يعني أن الحرب انتهت. لأن القلب لا يُبنى كما تُبنى المدن. الحياة ما بعد الحرب تحتاج إلى شجاعة أكبر من الحرب نفسها، تحتاج إلى حب، إلى صدق، إلى مجتمعات كاملة تقف مع من فقدوا.
نحن نكتب كثيرًا عن سياسات الحرب وأسبابها، لكننا نكتب قليلًا عن الإنسان الذي بقي بعدها. عن المرأة التي لم تجد من يعانقها، عن الطفل الذي لم يجد من يحمله، عن الشيخ الذي مات وهو ينتظر ابنه أن يعود.
ما بعد الحرب هو اختبار لإنسانيتنا: هل نتعلم الدرس؟ هل نتغير؟ أم نعيد نفس الأخطاء ونكتب فصولًا جديدة من الألم؟ ربما لا نستطيع أن نوقف الحروب، لكننا نستطيع أن نتحدث عنها بصدق، أن نتذكّر الجرح الذي يبدأ بعد الحرب، لعلّ العالم يدرك يومًا أنَّ أثمن ما في هذه الحياة ليس القوة ولا السلاح؛ بل الإنسان.!