محمد بن زاهر بن حمود العبري
الفساد الإداري ليس مجرد خطأ عابر أو ممارسة فردية معزولة، بل هو مرض صامت يتسلل إلى جسد المؤسسات فينهكها، ويمتص حيويتها، ويصادر حق المجتمع في التنمية والعدالة. وحين يستفحل هذا المرض، تصبح الكفاءة غريبة، ويغدو الولاء الشخصي معيارا أعلى من الولاء للوطن، ويتحول القانون إلى أوراق مهملة بينما تنشط المحسوبية والواسطة في تقرير مصائر الناس.
أعراض الفساد الإداري واضحة لكل منصف؛ فهو يظهر في تأخير المعاملات بلا مبرر، وتكديس الملفات في الأدراج، وإقصاء الكفاءات مقابل تمكين أصحاب العلاقات، كما يبدو في تضخيم العقود والمشاريع على حساب الجودة، وفي القرارات التي تصدر لخدمة أشخاص على حساب المصلحة العامة. وهو أيضا في ثقافة الصمت، حين يختار الموظف الشريف أن يلوذ بالصمت خوفا من الاصطدام بجدار النفوذ.
إن أخطر ما في الفساد الإداري أنه يخلق دائرة مغلقة: يزرع الإحباط في نفوس المخلصين، ويشجع غيرهم على السير في نفس الطريق باعتباره السبيل الأسرع للترقي. وهكذا تتحول المؤسسة من أداة لخدمة المجتمع إلى أداة لخدمة المنتفعين منها.
مقاومة هذا الداء ليست خيارًا ثانويًا؛ بل ضرورة وجودية. ولا يمكن مواجهته إلا عبر جملة من المسارات المتوازية:
- أولها ترسيخ الشفافية، فالمؤسسة التي تفتح بياناتها للرأي العام تقلل من فرص التلاعب والالتفاف.
- ثانيها تطبيق مبدأ المساءلة بلا استثناء، بحيث يخضع الكبير قبل الصغير للقانون، فلا حصانة في المال العام.
- ثالثها بناء ثقافة النزاهة عبر التربية والتعليم والإعلام، حتى يصبح رفض الرشوة والمحسوبية سلوكا اجتماعيا راسخا لا مجرد قانون مكتوب.
- ورابعها تمكين الأجهزة الرقابية من الاستقلالية التامة، ومنحها الصلاحيات التي تجعلها سلطة حقيقية لا مجرد ديكور إداري.
إنَّ مكافحة الفساد الإداري هي معركة وعي بقدر ما هي معركة قوانين. فإذا لم يقتنع المجتمع بأن صمته مشاركة في الجريمة، فلن تنجح أشد القوانين صرامة. أما إذا ارتفعت الأصوات المخلصة مطالبة بالشفافية، فإن الفساد سيفقد حاضنته، وسيذبل في ظل وطن يضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار.