أحمد بن محمد العامري
في زمنٍ انقلبت فيه الموازين وتحوّلت الحقائق إلى أوهام تُسوّق على أنها مسلّمات، يطلّ علينا مشهد أمتنا مثقلًا بجراحه مُحمّلًا بمرارة الخيبات.
الكيان الصهيوني يواصل اعتداءاته السافرة على سوريا ولبنان واليمن والعراق وإيران، ومؤخرًا على قطر، في سلوك عدواني متكرّر لم يعد يثير استغرابًا بقدر ما يثير غضبًا مكتومًا وحنقًا متفجّرًا، ورغم وضوح هذه الاعتداءات وتناقضها مع أبسط قواعد القانون الدولي، يصرّ الغرب بقيادة الولايات المتحدة على تغليفها بغلاف شرعي زائف تحت شعار "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" وفق ما يدعيه الكيان الصهيوني. في المقابل، حينما تردّ إيران أو اليمن أو المقاومة في لبنان وفلسطين على هذه الاعتداءات، تُرفع رايات الاستنكار الغربي فجأة، وتُطلق صفارات التحذير: "انتهاك للقانون الدولي! تهديد للسلم العالمي!". أي نفاقٍ هذا الذي يحوّل العدوان إلى دفاع، ويجعل من المُقاومة جريمة؟
إنها ازدواجية المعايير في أبشع صورها، ازدواجية تُصيب الأمة العربية والإسلامية في صميم وجدانها وتكشف عن حجم المؤامرة الممتدة لعقود؛ فالقوانين التي وُضعت لتكون ميزانًا للعدالة تحوّلت إلى سوط مسلط على رقاب المظلومين، في حين يفرش البساط الأحمر أمام المعتدين، والغرب الذي يتحدث ليل نهار عن حقوق الإنسان لا يرى في دماء أطفال غزة أو دمار عواصمنا إلا "تفاصيل جانبية"، بينما تُعتبر كل رصاصة يطلقها المقاوم تهديدًا وجوديًا للنظام الدولي! هذه المفارقات لم تعد خافية على الشعوب، لكنها ما زالت تجد في مواقف الأنظمة العربية الرسمية ما يُضاعف مرارتها.
ولعلّ القمة العربية الإسلامية الأخيرة في الدوحة كانت شاهدًا صارخًا على هذه المرارة. فقد علّقت الشعوب آمالها على هذه القمة وظنّت أنّ اجتماع العرب والمسلمين تحت سقف واحد سيُفضي إلى مواقف حازمة تُعبِّر عن نبض الشارع ويترجم إلى فعل ينصر الأمة، لكن ما خرج به الاجتماع لم يتجاوز حدود الإنشاء الدبلوماسي المكرر والكلمات الملساء التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
بيانٌ لا يرقى إلى مستوى الكارثة التي تعيشها الأمة ولا يتناسب مع حجم الدماء التي سالت والأوطان التي نُهبت والأعراض التي استُبيحت.
خيبة الأمل التي رافقت هذه القمة لم تكن مجرد إحباط عابر؛ بل هي امتداد لتاريخ طويل من البيانات الإنشائية والقمم التي تُعقد لتُسجَّل في الأرشيف، لا لتصنع واقعًا جديدًا.
الجماهير التي خرجت إلى الشوارع في أكثر من بلد ورفعت أعلام فلسطين وصرخت ضد الاحتلال لم تكن تنتظر من القادة خطابات مكررة؛ بل كانت تتطلّع إلى قرارات جريئة توقف نزيف الدم وتحفظ الكرامة وتضع حدًّا للغطرسة الصهيونية، لكنها وجدت نفسها مرة أخرى أمام جدار الصمت وأمام بيانات أقل ما يقال فيها إنها حبرٌ على ورق. ولذا لم يكن غريبًا أن يعلو في القلوب يقينٌ صارخ: الشعوب قادرة على أن تقوم بما عجز عنه القادة في الدوحة.
إن الفجوة بين الشعوب العربية والإسلامية وبين أنظمتها آخذة في الاتساع، ومع كل قمة لا ترتقي إلى تطلعات الأمة يزداد هذا الشرخ عمقًا؛ فالأمة التي تعبت من الشعارات وسئمت من خطابات الإدانة، باتت تدرك أن قوتها الحقيقية تكمن في وعيها وفي قدرتها على الضغط الشعبي، لا في انتظار بيانات تُصاغ في أروقة مُغلقة، والمفارقة أنَّ القادة الذين يخشون من تحرك الشارع هم أنفسهم الذين يُفترض أن يكونوا صوته أمام العالم، فإذا بهم يغضّون الطرف عن جرائم الاحتلال ويُدارونها بعبارات إنشائية.
ومع ذلك، لا يمكن للأمة أن تستسلم لهذا الواقع؛ فالتاريخ علّمنا أن الشعوب حينما تملك إرادتها تستطيع أن تُغيِّر موازين القوى، ومهما بدا الغرب متغطرسًا في دعمه الأعمى للكيان الصهيوني، فإن معادلة الأرض لا يحسمها إلا صمود المقاومين وإصرار الشعوب. والوعي المتنامي لدى الجماهير واحتجاجاتها المتواصلة، هما أكبر دليل على أنَّ هذه الأمة رغم كل الجراح، ما زالت حيّة لا تموت، وأنها قادرة على قلب الطاولة حين يحين أوانها.
في النهاية، إن ما جرى في الدوحة لم يكن سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الخذلان، لكن الشعوب لم تعد تضع آمالها في بيانات القمم بقدر ما تضع في وعيها وإرادتها وقدرتها على المقاومة، وإذا كان قادة الأمة قد اختاروا لغة المواربة والمجاملة، فإنَّ لغة الشارع أوضح وأصدق: لا خلاص إلا بإنهاء الاحتلال، ولا سلام إلا بميزان عدالة حقيقي، ولا مستقبل إلا بإرادة الشعوب. وإن غدًا لناظره قريب.