ترهيب أم ترغيب؟

 

 

عائض الأحمد

واقع التعليم لا يُختصر في سجل حضور وانصراف، ولا في وضع العراقيل أمام الأسر. متى سندرك أنَّ القاعة التعليمية تحمل قدسية أعمق من مجرد العقاب؟ وأن الانضباط الحقيقي لا يُبنى بالتهديد، بل بالتحفيز وصناعة بيئة جاذبة لأبنائنا؟

نُقدّر حرص كل من له علاقة بفرض الانضباط، لكن هل كل أسرة ترى الأمر بالعين نفسها؟ وهل ندرك حجم الفجوة التي يلمّح إليها أولياء الأمور في أحاديثهم حول هذه الإجراءات؟ إن ما بين الترهيب والترغيب مسافة تصنع مستقبل جيل بأكمله.

أفهم أن هناك من سبقنا في ترسيخ قيم الانضباط. لكن ما لا أفهمه أن يُختزل الأمر في سجل حضور وانصراف، وكأنَّ التعليم إنجاز يُقاس بعدد المقاعد المملوءة.

أليس في ذلك عودة إلى الوراء وربط للنجاح بإحصاءات شكلية؟ إن أردنا أن نُعزز الالتزام والاحترام للوقت، فلا يكون ذلك بالتشدّد الجاف. بل يجب تجذير قدسية العلم والمعلم في نفوس أبنائنا.

وإلّا، فلن يبقى من تلك القدسية إلا مظهرٌ خارجي، أو تباهٍ فارغ بمن يحمل شهاداته كما لو كانت مجرد أسفارٍ مطلية بالذهب والعود.

كنت أظن؛ بل توقعت، أن يُبادر بعض القائمين على المسيرة التعليمية بتقديم دراسة أو بحث، يجيب عن هذه التساؤلات، لا أن تُترك معلّقة في الهواء.

المفارقة أن الرجل البسيط في أحد شوارعنا قد يسرد لك من الأسباب ما يُثير دهشتك، وربما يضحكك. لكنه في عمق بساطته يضع يده على حقيقة غابت عن لجانٍ ومكاتب مليئة بالتقارير. صدق الرجل، وعجبت أنا.

في زمنٍ مضى، وتحت وطأة ظروف قاسية، كانت أبواب المدارس مشرعة لا لأنَّ المسؤولين أرادوا ذلك، بل لأن شحّ الإمكانيات فرض واقعًا مختلفًا. كان الطالب الذي يُريد البقاء يظل متمسكًا بمكانه، صابرًا على قسوة البيئة وكأنه في جهادٍ حقيقي.

كثير من أبناء جيلي عاشوا هذه المرحلة؛ بعضهم تجاوز مشقتها وبلغ ما يصبو إليه، وآخرون توقفت بهم الرحلة في منتصف الطريق. لكنهاـ رغم قسوتهاـ لم تكن مرحلة سلطوية القرار؛ بل انعكاسًا لظروف اجتماعية واقتصادية فرضت نفسها. ومع ذلك تركت الباب مفتوحًا للبحث والمثابرة والاستمرار.

وإلى اليوم، لم أجد دراسة جادة تعالج ما نكرره سنويًا، وكأننا "نلوك" حديثًا فقد قيمته، ونبسط حدودًا تجاوزها التربويون في ميادين أخرى. بينما نقف هنا بين مطرقة حضور اجتماعي يتداول معاناته، وجدران مغلقة يردد من خلفها بعض المسؤولين: "نحن أعلم وأفهم".

ولست أستغرب إن وجدت أبناء هؤلاء بعيدين عن هذه الدوامة، في مدارس أخرى أو بيئات تعليمية خارج إطار المعاناة. فالماديات- في النهاية- قد تمنحك تذكرة للهروب.

إننا اليوم أمام فرصة لإعادة التفكير في أسلوبنا التربوي، وجعل المدارس أماكن تحفّز على التعلم لا مجرد رقابة على الحضور. فرصة لنزرع الفضول والشغف في نفوس أبنائنا، ونكافئ الإبداع والاجتهاد، لا فقط الالتزام بالقوانين.

المستقبل لا يُبنى بعقابٍ يومي؛ بل بثقة الطالب بنفسه وقدرته على التعلم. وإذا استطاع التعليم أن يكون حافزًا وملهمًا، عندها سنتمكن حقًا من أن نصنع جيلًا يقدّر العلم، ويجعل الانضباط قيمة يعيشها لا مجرد رقم يُسجل في دفتر الحضور.

هبّ أن هناك من تجاوز غيابه حدوده، أوليس من حقه أن يتعلم مهما كانت ظروفه؟ إذا لم نكن عونًا له، فعلينا على الأقل ألّا نكون سببًا في إقصائه. فالتعليم حق، والانضباط قيمة، ولكن أحيانًا يحتاجان إلى قلبٍ يفهم ويدعم، قبل أن يكونا سجلًا أو عقابًا.

لها: المدرسة لها صمت يشبه ضوء الفجر، يلمس النفوس قبل أن تلمسه العيون، ويزرع في القلب رغبةً خافتة في البحث والمعرفة، حتى لو لم يُسجَّل في دفاتر الحضور.

شيء من ذاته: قد يتوه أحيانًا بين جدران الصف، لكنه يحتفظ بفضوله، ويحمل أحلامه بين دفاتر متواضعة لا تعرف كان أبي، بل تعرف الشغف والمثابرة.

نقد: العقاب وحده نقدٌ أجوف، يخلع الانضباط من جذوره ويتركه قشّةً تتطاير مع أول ريح. الانضباط الحقيقي يحتاج قلبًا يفهم، لا سجلًا يحصي، ووعيًا يزرع لا قانونًا يفرض.

الأكثر قراءة