حافة السؤال
حمد الصبحي
قد تبدو ورشة العمل التي نظمتها وزارة العمل في سلطنة عُمان بالتعاون مع نظيرتها في البحرين جزءًا من سلسلة اللقاءات الثنائية المألوفة في المنطقة، لكنَّ التمعُّن في تفاصيلها يكشف أنها لم تكن مجرد اجتماع عابر؛ بل خطوة تحمل دلالات عميقة ورؤية متجددة، تنبثق من مشروع شراكة إنسانية واقتصادية متجذرة في التاريخ، ومتطلعة نحو آفاق أرحب من التعاون والإبداع.
على مدى يومين في مسقط، لم تقتصر الورشة على استعراض السياسات أو تبادل التجارب، بل تحولت إلى منصة فكرية وعملية تنطلق من قناعة راسخة، أن الإنسان بوعيه ومهاراته هو الثروة الحقيقية التي لا تنضب، وأن التنمية تبدأ من الإنسان وتنتهي به، فيما تبقى السياسات والأدوات مجرد وسائل مساندة.
من يقرأ التاريخ يدرك أن علاقة عُمان بالبحرين ليست وليدة العصر الحديث، بل تعود إلى زمن كانت فيه البحار جسورًا للتجارة والتبادل الثقافي؛ حيث تلاقت النفوس وتكوّن وجدان مشترك قوامه العمل الجاد وروح المثابرة، واليوم، ومع تغيّر الزمن، تتجدد هذه الروابط في إطار مؤسسي أكثر انتظامًا، لكنه يظل متمسكًا بجوهره الأصيل، الإنسان المبدع الباحث عن دوره في فضاء العالم.
وقد لخَّص سعادة السيد وكيل وزارة العمل لتنمية الموارد البشرية هذا المعنى حين قال: “الاستثمار في الكفاءات الوطنية هو الركيزة الأساسية لبناء اقتصاد مستدام وقادر على مواجهة التحديات”. عبارة تختصر فلسفة المرحلة؛ إذ لم يعد الرهان على الموارد الطبيعية وحدها كافيًا، بل أصبح المورد البشري المبدع هو معيار التفوق في عالم تحكمه التكنولوجيا وتفرضه التحولات المتسارعة للأسواق.
لقد أدرك البلدان معًا أن بناء القدرات الوطنية وتطوير المهارات المتجددة لم يعد خيارًا، بل ضرورة وجودية. ومن هنا تتجلى قيمة التعاون الثنائي كوسيلة لتبادل الخبرات وصياغة حلول مبتكرة للتحديات المشتركة. وقد جاءت كلمات وكيل العمل البحريني لتؤكد أن التجربة العُمانية في تنظيم سوق العمل تمثل نموذجًا يحتذى، في الوقت الذي عرضت فيه البحرين تجربتها في تشجيع القطاع الخاص وتمكين الشباب والمرأة. وهنا يبرز تقاطع جوهري: أن التنمية الحقيقية لا تصنعها الدولة وحدها، بل تقوم على شراكة فاعلة بين القطاعين العام والخاص، وعلى تمكين الأفراد ليكونوا شركاء في صناعة المستقبل.
وتبقى قضية الباحثين عن عمل، خصوصًا بين الشباب الذين يشكلون الشريحة الأكبر في المجتمع، أحد أبرز التحديات أمام دول الخليج، ومن هنا كان تناول الورشة لمحاور مثل ريادة الأعمال، وتمكين المرأة، وتعزيز الابتكار، دعوة صريحة لإعادة تعريف النجاح بعيدًا عن الوظيفة الحكومية، وتوسيع الأفق أمام اقتصاد يقوم على الإبداع والريادة.
ولا يمكن النظر إلى هذا اللقاء بعيدًا عن المشهد العالمي المتغير؛ فالذكاء الاصطناعي، والتحول الرقمي، والطاقة النظيفة، وإعادة تشكيل سلاسل التوريد، كلها عناصر تعيد رسم خريطة الاقتصاد الدولي. والسؤال المطروح؛ كيف يمكن لدول صغيرة نسبيًا كعُمان والبحرين أن تضمن لنفسها موقعًا في هذا المشهد المعقد؟ الجواب جاء واضحًا؛ عبر الاستثمار في المورد البشري، لأنه السبيل الوحيد للتفوق في زمن لم تعد فيه الثروات تقاس بما في باطن الأرض، بل بما في العقول من معرفة وقدرة على الابتكار.
وقد أثنى الوفد البحريني على التجربة العُمانية في نظام الاعتماد المهني، باعتباره فلسفة تعيد الاعتبار لقيمة العمل وتمنح العامل إحساسًا بالجدارة والاعتراف، فيما أضافت برامج البحرين في دعم الشباب والمرأة ورعاية ريادة الأعمال بعدًا نوعيًا يثري التجربة الخليجية المشتركة.
بعيدًا عن الجوانب الفنية، حملت الورشة بعدًا ثقافيًا وحضاريًا، إذ لم يكن الهدف تبادل السياسات فقط، بل تبادل الرؤى حول معنى العمل ومكانة الإنسان ودور الدولة في تشكيل المستقبل. لقد بدا اللقاء، في جوهره، نقاشًا حضاريًا حول كيفية إعادة صياغة المجتمعات الخليجية ذات التاريخ البحري والتجاري العريق، في عصر الثورة الرقمية والعولمة.
وفي النهاية، فإنَّ ما خرجت به الورشة يختصر في مشهد واحد؛ الكفاءات الوطنية في الصدارة، والتعاون العُماني البحريني نموذج يُحتذى به في المنطقة، نموذج يضع الإنسان في قلب التنمية، ويجعل من الشراكة وسيلة لتحقيق الحلم العربي الأكبر في بناء مستقبل مستدام.
وتبقى كلمة شكر واجبة لكل من بادر وفكر ونفذ هذه الورشة، وللبحرين العزيزة التي حضرت بأهلها الكبار بمكانتهم والمحبوبة بمكانتها في القلوب.