سيف بن علي العبري **
في تاريخنا العربي والإسلامي، تبرز الزهراء السقطرية كرمزٍ نسائيٍ فريد، لم تكن شاعرةً فحسب، بل كانت صوتًا للحق في لحظة انكسار، حين أطلقت صرختها إلى الإمام الصلت بن مالك، تستنهض فيه نخوة الإسلام والسلطنة، بعد أن غدر النصارى بجزيرة سقطرى. كانت كلماتها نارًا في صدر التاريخ، لا تزال تتوهج في ذاكرة الأمة. لم تكن قصيدتها مجرد كلمات، بل كانت نداءً من قلب الجراح، حرّك الجيوش، وأعاد للجزيرة كرامتها.
واليوم، في غزة، تتكرر الصرخة، ولكن بصيغٍ جديدة. نساء غزة، في وجه الحصار والعدوان، يكتبن قصائدهن بالصبر، ويصرخن بالحق من تحت الركام. في كل أمٍ شهيدة، وفي كل صحفية توثق الألم، وفي كل معلمة تواصل التعليم رغم الدمار، نرى الزهراء السقطرية تتجلى من جديد، ويرفعن راية الكرامة في زمنٍ تتكالب فيه القوى، ويقفن كما وقفت الزهراء، شامخات في لحظة انهيار. الزهراء خاطبت الإمام بلغة الدين والغيرة، ونساء غزة يُخاطبن العالم بلغة الإنسانية والحق. كلاهما نداءٌ من قلب الجراح، وكلاهما دعوةٌ للقيام، لا للاستسلام.
إنَّ المُقارنة بين الزهراء ونساء غزة ليست ترفًا أدبيًا؛ بل هي استحضارٌ لجوهرٍ مشترك: امرأةٌ في قلب الأزمة، لا تملك سلاحًا، لكنها تملك الكلمة، والموقف، والإيمان. الزهراء خاطبت الإمام بلغة الدين والغيرة، ونساء غزة يُخاطبن العالم بلغة الإنسانية والحق، وكلاهما نداءٌ لا يُنسى.
في زمنٍ تتكاثر فيه الأزمات، وتُنسى فيه البطولات النسائية، علينا أن نُعيد الاعتبار لهذه الأصوات. فالزهراء السقطرية ليست مجرد صفحة في كتاب، ونساء غزة لسن مجرد أرقام في تقارير. إنهنّ رواة الكرامة، وصانعات التاريخ، وصرخاتهنّ تستحق أن تُسمع، وأن تُخلّد.
إننا، حين نستحضر الزهراء، لا نبحث عن تماثلٍ سطحي؛ بل عن جوهرٍ مشترك: امرأةٌ في قلب المعركة، لا تحمل سيفًا، بل تحمل الكلمة، والكرامة، والإيمان. ونساء غزة اليوم، هنّ الزهراء في ثوبٍ جديد، يكتبن التاريخ من تحت الركام، ويعلّمن العالم أن البطولة ليست حكرًا على الرجال، ولا على السلاح، بل على من يثبت في وجه الظلم، ويصرخ بالحق، ولو بكلمة.
فلنُحيي ذكرى الزهراء، لا كحكايةٍ من الماضي، بل كمرآةٍ للحاضر، وكجذوةٍ تلهمنا أن نكون صوتًا للحق، حيثما كان، ومع من كان.
ففي القرن الثالث الهجري، وقفت امرأة عمانية تُدعى فاطمة بنت أحمد الجهضمية، شاعرة ومجاهدة عُمانية من القرن الثالث الهجري (توفيت عام 273هـ / 886م)، وُلدت في بلدة سمد الشأن بمحافظة الشرقية في سلطنة عُمان، وكتبت أبياتًا تهزّ الوجدان، تستغيث فيها بالإمام الصلت بن مالك بعدما اغتُصبت جزيرة سقطرى على يد الأحباش. لم تكن شاعرة فحسب؛ بل كانت صوتًا للعرض والدين، فاستجاب الإمام، وجهّز مئة سفينة، وحرر الجزيرة، وسُجل ذلك في صحائف المجد العُماني.
واليوم، في غزة، يتكرر المشهد، يُعيد نفسه، والتاريخ يكررها مرة ثانية، ولكن اختلف الرجال واختلفت الأهواء وأصبح الدين غريبًا عند البعض أو مستهجناً أو مسيساً، والصمت العجيب يلفّ الآذان، والخذلان العظيم يثقل الأكتاف. نساء غزة لا يكتبن القصائد؛ بل يصرخن تحت الركام، يلدن دون تخدير، يتقاسمن المراحيض في العراء، ويُحرمن من أبسط حقوق الكرامة والخصوصية. ومع ذلك، لا يصل الصوت، ولا يتحرك الجيش، ولا يُستجاب النداء.
يا للرجال أغيثوا كلَّ مسلمةٍ // ولو حبوتم على الأذقانِ والركبِ
هكذا قالت الزهراء، وهكذا ينبغي أن نقول اليوم، فغزة لا تطلب المستحيل، بل تطلب أن نكون بشرًا، أن نكون أمة، أن نكون أحرارًا. أما في غزة، فالتاريخ الحديث والقديم مليء بنساء جسّدن البطولة في وجه الاحتلال والعدوان، وإن اختلف السياق. من بين الأمثلة:
نساء من غزة يشبهن الزهراء السقطرية في الروح والموقف:
رُقيّة أبو عُوف: شاعرة فلسطينية من غزة، كتبت قصائد مؤثرة عن الحصار والعدوان، تحمل نبرة استغاثة وكرامة تشبه نداء الزهراء.
أم نضال فرحات (خنساء فلسطين): أم لثلاثة شهداء، كانت رمزًا للتضحية والصبر، وشاركت في العمل السياسي والدعوي، وقد لقبت بالخنساء لما قدمته من أبنائها فداءً للوطن.
الناشطات في الإعلام والميدان: مثل مي الكيلة وهدى الزهّار، وغيرهن من الصحفيات والممرضات والمعلمات اللواتي وقفن في الصفوف الأمامية خلال الحروب، يوثقن الألم ويصبرن عليه.
إنني لا أُخاطب القادة؛ بل أُخاطب الشعوب، أخاطب الضمائر، أُخاطب من لا يزال في قلبه جذوة الإيمان والكرامة؛ فليكن لكل واحد مِنَّا موقف، وكلمة، ودعاء، ومقاطعة، وتوعية، ولو كان صغيرًا.
ولتكن الزهراء السقطرية قدوتنا في زمنٍ عزَّ فيه النصير، واشتد فيه البلاء.
** صاحب مكتبة بوثمانية بولاية الرستاق