محفوظ بن راشد الشبلي
في دورة الزمان المُتسارع في أحداثه وتقلباته نقف أحياناً عند عتبات مفترق طرقه لنجد أنفسنا نَئِنُ تحت وطأة قساوة الحياة، الأمر الذي يستدعينا لاستشعار كيف كنّا وكيف صرنا، إنَّ التحولات الحديثة والمُرهقة التي نَعيشها ونُعايشها أوجدت فينا الكثير من المتاعب للتأقلم معها أو لتحويل بساطتنا التي اعتدناها إلى مشقّات مُرهقة حتّمت علينا مُسايرتها غصبًا عنّا ولو كُنّا لها كارهين، لتبقى خيارات الهروب من واقعها المُر والمُرهق ضئيلة جدًا إذا ما قارنّاها بواقعنا الماضي القديم البسيط السهل الذي عايشناه.
كم من الصِحاب الذين نمر بهم نجد من خلال نبرة حديثهم شكواهم من الواقع الحديث المتذمرين منه بشدة، ويتمنون العودة لماضيهم القديم البسيط الذي كانوا عليه رغم امتلاكهم مقومات الحياة الحديثة والجميلة، ولكن الحنين لماضي البساطة التي كانوا عليها يطغى على حديثهم كلما جلسنا معهم.
البعض يحن لنسخة أصحابه الأولين الذين عايشهم في بداياته، والبعض يحن لرفقاء الدراسة الابتدائية الذين أبعدته عنه دراساتهم العليا، والبعض يحن لمكان إقامته السابقة ولمزرعته ولحاجزها الخارجي المبني من جذوع وسعف النخيل وأغصان الأشجار، والبعض يحن لبيته القديم ولصخب الحارة وصوت الأطفال في ممرات الحارة وأزقّتها القديمة ولصوت البحر وصِداح نوارسه ولصوت العصافير فوق مزراب بيته القديم وفوق أغصان الأشجار، ومن أعجب ما سمعته هو حنين البعض لصوت مكينة مزرعته القديمة ولانسكاب ماءها في حوضه المبني من الطابوق والأسمنت المتشقق والمتصدع من بساطة بنائه.
نسمع أحياناً صديقاً يُبارك لصديقه ثروته الطائلة التي وصل إليها من تجارته وعقاراته ويرد عليه ليتني بقيت على دكّاني الصغير أرجع منه لبيتي وأخمد رأسي وضميري مرتاح من هم التجارة ومشاغلها التي أفقدتني راحتي ونومي العميق، وآخر يُبارك لزميله منصبه العالي الذي ارتقى له في عمله ويرد عليه ليتني بقيت موظفًا صغيرًا أقضي عملي الموكل عليْ وأرجع من دوامي وعلامات السعادة والراحة تنتشيني نظير مسؤوليات المنصب التي أرهقتني حتى وأنا في بيتي وبين عيالي، وصديق يُبارك لصديقه منزله الكبير ذا الأدوار العالية وسيارته الفارهة وهو يرد عليه ليتني بقيتُ على منزلي السابق وغُرَفَه القريبة من غرفتي التي أسمع وأرى فيها أولادي وهم داخلين وخارجين يُسلّمون عليّ نظير بيتي الكبير هذا المترامي الأطراف الذي لا أراهم فيه ولا أسمعهم وكل منهم له ملحقه الخاص به هم وزوجاتهم، والمشتكى يطول ويكثر من واحدٍ لآخر وكل منهم يحن لنُسخته القديمة التي أفنى عمره وضحّى بصحته وعافيته للهروب والتَّخلص منها لنسخة جديدة حاضرة بجديدها وغائبة عن راحتها ورائحتها القديمة.
خُلاصة القول.. إنَّ لكل ماضٍ حنين ولكل مكان رائحته ولكل مرتع تحن له النفس عندما تطحن الإنسان الحداثة وتغيب عنه البساطة وتشغله المغريات وتغيب عنه الذكريات ويعايشه أصحاب المال والسلطة ويفقد صِحابه الأولين البسيطين، وتبقى النفس حائرة تبحث لها عن متنفس ولو بسيط بدل الصخب المُقلق، ولأصحابٍ بسيطين بدل المُترفين منهم، وتبقى في نفوسنا حِنيّة عميقة لنُسخَنَا القديمة نبحث عنها عندما أفقدنا الزمان بساطتها وجمالياتها، فهل حقًا نحن بحاجة لنُسخنا القديمة ولراحة نفوسنا المُتعبة ولنومتنا العميقة فوق فراشنا القديم ووسادتنا الحميمة ولحافنا العتيق، وهيهات هيهات لحلو البساطة في ذلك الزمان الجميل.