ريتّا دار
"نحن نستهلك أعمارنا بدلًا من أن نعيشها". هذه العبارة تصف جيلًا كاملًا، جيلًا يركض في كل اتجاه، لكنه نادرًا ما يتوقّف ليلتقط أنفاسه.
كم مرّة اشترينا شيئًا جديدًا، وما إن فتحنا غلافه حتى بدأنا نبحث عن بديل أحدث؟ وكم مرّة جرّبنا فرحة مُؤقتة، سرعان ما تبخّرت لتترك مكانها فراغًا أكبر من الذي كان قبلها؟
نحن أبناء زمنٍ صارت فيه اللقمة أسرع، والعلاقات أقصر، وحتى الأحلام تُقاس بسرعة "التحميل". نستهلك الوقت كما نستهلك القهوة في أكواب ورقية، ساخنة لثوانٍ، باردة بعدها بلا طعم.
نعيش في زمنٍ صار كل شيء فيه قصيرًا: زمن الوجبة الجاهزة، والصداقة العابرة، والفكرة التي تُستبدل قبل أن تكتمل. جيل كامل يتنقّل بين الصور كما يتنقّل بين الملابس، يجرّب الأشياء سريعًا ثم يتركها أسرع.
في الأسواق، في الشوارع، في هواتفنا… كل شيء يلمع للحظة ثم يخفت. نشتري فرحًا مُعلبًا في إعلان، ونصدّق أنّ السعادة تُشحن إلى باب البيت مع طردٍ إلكتروني. حتى الذكريات لم تعُد تنتظر أن تنضج؛ نصنعها ونستهلكها في اللحظة نفسها، ثم نمضي.
كان أجدادنا يفتخرون بأنّهم صنعوا بأيديهم ما يكفي ليبقى. اليوم نفتخر بأنّنا غيّرنا هاتفًا لم يمضِ على شرائه عام. صار العمر سباقًا محمومًا بين ما نملك وما نُريد أن نملك، وبين ما نأكل وما نتوق لتذوّقه، وبين وجهٍ نُحبّه ووجهٍ نمرّ به سريعًا دون أن نراه.
الأخطر أنَّ الاستهلاك لم يعد محصورًا في الأشياء، بل امتدّ إلى المشاعر. نصادق بسرعة، ونفارق بسرعة. نحبّ كما لو أنّ الحبّ تطبيق يمكن حذفه بضغطة زر. وحتى ذكرياتنا، نحمّلها في مقاطع فيديو قصيرة، لا وقت فيها للتفاصيل التي كانت تصنع المعنى.
لكن.. ماذا لو جاء يومٌ نكتشف فيه أنّنا لم نعش حقًا، بل مررنا مثل متسوقين في ممرّ طويل، نلتقط من الرفوف ما تيسّر ثم نُغادر؟ ماذا يبقى بعد كل هذا الركض؟
يبقى فراغ يشبه الجوع، جوعًا لا يُشبع لأننا لم نتعلم أن نتذوّق، بل تعلّمنا فقط أن نبتلع.
ربما علينا أن نتوقف. أن نتذكّر أنّ الحياة ليست سباقًا لملء السلال بما هو جديد، بل فنًّا في الاعتناء بما بين أيدينا.
في بلادنا العربية، ما زالت هناك جيوب مقاومة لهذا الطوفان؛ جلسة عائلية حول مائدة تقليدية، قهوة تُقدّم في فناجين خزفية لا في أكواب بلاستيكية، وأمّ تروي حكاية جدّ قديم بدلًا من أن تضع جهازًا لوحيًّا في يد طفل. هذه اللحظات البسيطة ليست ترفًا، بل تذكير بأنّ الإنسان لا يُقاس بما يستهلك، بل بما يحفظ في قلبه من أثر.
الجيل السريع الاستهلاك بحاجة إلى وقفة، إلى إعادة تذوّق الأشياء كما هي، لا كما تُسوّق لنا. بحاجة إلى أن نتذكّر أنّ بعض القيم، مثل الصداقة والوفاء والذاكرة، لا تُشترى ولا تُستبدل.
أن نعيش بلا استهلاكٍ مُفرِط لا يعني أن نتخلى عن التكنولوجيا أو عن الراحة، بل أن نعيد لها معناها. أن نشتري أقلّ، لكن نحفظ أكثر. أن نأكل ببطء، ونضحك بصدق، ونلتقط صورًا لا لننشرها فورًا، بل لنحتفظ بها شاهدة على لحظة لن تتكرر.
ربما هذا هو التحدي الأكبر لجيلنا: أن نتعلم كيف نتأنّى في زمن يركض، أن نعيد للبساطة مكانتها، وأن نمنح الأشياء حقها من الحضور قبل أن نضعها في خانة "قديم الطّراز".
ولعلّ أجمل ما يُمكن أن نتركه لأبنائنا، ليس جهازًا حديثًا ولا لذّة مُترفة، بل لحظة هادئة ليتأمّلوا، ويعيشوا اللحظة كما لو كانت آخر ما لديهم.
فالحياة، في النهاية، ليست ما نستهلكه؛ بل ما يسكن قلوبنا بعد أن يزول كل شيء!