الشاهد الصامت

 

 

 

ريتا دار

darrita936@gmail.com

 

قرأتُ ذات مرة جملةً تقول: "الصور لا تحفظ اللحظة؛ بل تحفظ القلب الذي كان يخفق فيها." أعدت قراءتها مرارًا، وكأنني وجدت فيها سرًا كنت أنساه.

كم مرة فتحت ألبوم صور قديم، فإذا بالورق الأصفر يتناثر بين يديك مثل أوراق خريفٍ خاصة بك وحدك؟ وكم مرة رأيت ابتسامة مجمدة في صورة، فسمعت ضحكةً غابت منذ سنوات طويلة؟

لكنني أريد أن أسأل: ماذا حدث لكل تلك الصور الورقية؟

لماذا صارت منسية في أدراج مغلقة، بينما هواتفنا تمتلئ بآلاف الصور السريعة التي لا نتذكرها أصلًا؟

لماذا تحول وجه الأم في صورة قديمة إلى مجرد "ملف" نمر عليه بلا توقف؟

في بيوت كثيرة، كانت الألبومات الورقية تُعرض في جلسات العائلة، وكأنها شريط سينمائي يعرض سيرة بيت بأكمله. نضحك على قصة وراء صورة، ونصمت أمام أخرى لأن ملامح صاحبها لم تعد بيننا. الصور كانت وسيطًا يجمعنا، ومناسبة صغيرة للاحتفال بالذاكرة.

الصور العائلية لم تكن مجرد صور.

كانت شرفات صغيرة نطل منها على أعمارنا السابقة.

كانت المتحف الأول الذي دخلناه، دون أن ندري أننا نزور متحفًا.

في كل صورةٍ وجه، وفي كل وجهٍ حكاية. ثوب العيد الأول، شجرة في باحة قديمة، يد جدة ترتجف وهي تمسك بطفل.

حتى صور المناسبات البسيطة، كأول يوم مدرسة أو جلسة عائلية في فناء البيت، كانت تحمل قيمة رمزية كبرى. لم يكن الهدف أن "نظهر" كما نفعل اليوم؛ بل أن نحتفظ بما هو عابر حتى لا يضيع.

لكن الزمن تغير.

لم نعد نطبع الصور.

صرنا نعيش في زحام اللقطات، نحمل مئات الآلاف منها في جيوبنا، دون أن نلمسها حقًا.

صارت اللحظات أخف، لكنها أيضًا أقل وزنًا على قلوبنا.

في عصر السرعة، اختفى الطقس الجميل المتمثل في انتظار تحميض الصور، أو فرحة ترتيبها في ألبوم جديد. تحولت الصورة من "ذاكرة" إلى "استهلاك"، ومن انتظار شغوف إلى لقطة عابرة نُضيفها لقائمة طويلة لا وقت لمراجعتها.

أحيانًا أخاف، حين يضيع هاتف، أو يُمحى ملف، لا يضيع جهاز فحسب؛ بل تضيع أعمارٌ صغيرة كنا نظن أنها بأمان. بينما صورة ورقية قد تبقى نصف قرن، تنجو من سفر وهجرة وبيتٍ مهجور، وتنتظر من يعيد فتحها ليبتسم من جديد.

والمؤلم أننا حين نفقد صورة قديمة، لا نفقد صورة فقط؛ بل نفقد جسرًا كان يصلنا بأشخاص رحلوا، أو بطفولة لن تعود.

في سلطنة عُمان، كما في بقية البلاد العربية، الصور القديمة تحمل بُعدًا اجتماعيًا خاصًا. أجيال كاملة توثق حياتها بالصور العائلية التي تُعرض في الأعراس، أو تبقى مؤطَّرة على جدار البيت. هذه الصور لم تكن ملكًا لفرد؛ بل ذاكرة جماعية لعائلة ممتدة، وحتى لمكان بكامله.

اليوم، قلَّما نجد أبناء الجيل الجديد يتوقفون أمام صورة بالأبيض والأسود لجد يرتدي الدشداشة التقليدية، أو لطفلة تضحك بخجل تحت نخلة باسقة. ومع ذلك، تبقى هذه الصور جزءًا من هُوية المكان، ومن ذاكرة الناس الذين مروا فيه.

الصور لا تعني شيئًا للغريب. لكنها بالنسبة لنا أوطان مصغرة، نعود إليها عندما تضيع ملامح الأمكنة.

إنها ذاكرةٌ ضد النسيان، ومتحفٌ صامت لا يزوره أحد، لكنه يظل موجودًا ليذكرنا بأننا كنا، وما زلنا، بشرًا من لحم وحنين.

ربما آن الأوان أن نعيد النظر في علاقتنا بالصور، أن نطبع منها ما يستحق البقاء، ونعلم أبناءنا أن بعض اللحظات لا تُترك عالقة في فضاء الهواتف؛ بل تُحفظ بملمس ورقٍ ودفء أصابع؛ لأن كل صورة، مهما بدت بسيطة، هي في حقيقتها شاهد صامت للحياة، ورسالة حب من الماضي تقول لنا: "أنتم لم تمروا من هنا عبثًا".

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة