"التعليم المستمر" في مفهوم قانون المحاماة والاستشارات القانونية

 

 

د. سالم الفليتي*

salim-s@zcw.edu.om

 

أولى المُشرِّع العُماني في قانون المحاماة والاستشارات القانونية الجديد اهتمامًا بالغًا بالتعليم المستمر، أو ما يسميه البعض "التعليم مدى الحياة"، ويعني أن يحرص الإنسان -طيلة حياته- على تحصيل علوم جديدة مختلفة في شتى المجالات المعرفية؛ سواء بالاعتماد على دافع شخصي منه أو مهني.

آية ذلك، أن المُشرِّع نظّم كل ما يتعلق بهذا البرنامج تنظيمًا شاملًا؛ سواء من حيث عدد البرامج التدريبية وطبيعتها وتنوعها أو من حيث طريقة تقويمها واحتساب ساعاتها وأوزانها. واهتمام المُشرِّع العُماني بالتعليم المستمر بهذا القدر الكبير يُظهر لنا أنه يتبنى فلسفة حديثة، تهدف إلى خلق جيل جديد من المحامين، قادرين على تعزيز مهنة المحاماة، هذه المهنة التي كرمها النظام الأساسي للدولة، وأفرد لها نصا خاصا بها، وهو نص المادة (38) منه، والذي نص على أن: "المحاماة مهنة حرة، تشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة وسيادة القانون وكفالة حق الدفاع، يمارسها المحامي مستقلًا، لا يخضع إلا لضميره وأحكام القانون".

ويلحظ على المُشرِّع -ويحمد على نهجه هذا- أنه وهو يُعظِّم التعليم المُستمر للمحامين من خلال أثره الإيجابي على توسيع مداركهم المختلفة يشترط لقيدهم في جداول المحامين المقبولين أمام مختلف مستويات المحاكم، الابتدائية ومحاكم الاستئناف، والمحكمة العليا، أن يكونوا قد اجتازوا البرامج التدريبية والاختبارات المصاحبة لها؛ مما يعني أنه لا يمكن -بحال من الأحوال- قيد محام في أي جدول من تلك الجداول إلّا بعد اجتيازه تلك البرامج التدريبية. وتُبيِّن الفقرة (2) من المادة (25) من القانون ذاته الأثر المترتب على عدم اجتياز المحامي المتدرب البرنامج التدريبي والاختبارات المصاحبة لها؛ حيث يشطب اسمه من جدول المحامين المتدربين ما لم تقرر لجنة شؤون المحامين منحه فرصة أخرى في ضوء الأسباب التي يقدمها. أما الأثر المترتب على عدم اجتياز المحامين ممن تم تقييدهم في الجداول الأخرى، فلا يتم قيدهم في جدول أعلى إلا بعد اجتيازهم البرنامج التدريبي المعد لهذا الغرض والاختبارات المصاحبة له. بدلالة البند (1) من المادة (30) من القانون، والبند (1) من المادة (31) من القانون، والبند (1) من المادة (32) من القانون. وحسنًا فعل المُشرِّع العُماني ذلك، على اعتبار أنه لا يمكن بحال من الأحوال نقل قيده إلى جدول أعلى حتى ولو استوفى باقي الشروط الأخرى التالية.

وقد تكفلت المادة (8) من اللائحة التنفيذية لقانون المحاماة والاستشارات القانونية ببيان كيفية احتساب الساعات المعتمدة لبرنامج التعليم المستمر، ولكن قبل عرضها، يلحظ على المُشرِّع أنه في المادة (7) من اللائحة ذاتها يشترط لاجتياز المحامي برنامج التعليم المستمر حصوله -على الأقل- على (24) ساعة معتمدة من التدريب في كل عام من أعوام بقائه في جدول معين. وهو نهج حديث يحمد المُشرِّع لتبنيه، آية ذلك ضمان المُشرِّع عدم انقطاع المتدرب عن التدريب طوال سنوات عمله في المهنة.

ويُحسب للمُشرِّع موقفه بانتقاص مدة التدريب بواقع ساعتين عن كل شهر، متى كانت المدة المتبقية لانتقال المحامي إلى جدول أعلى تقل عن (11) شهرًا.

وبعودتنا إلى بيان كيفية احتساب الساعات المعتمدة لبرنامج التعليم المستمر، يظهر لنا المُشرِّع فلسفة حديثة توافقية تجانسية مع الأهداف المتوقع من المحامي الحصول عليها. هذا من جانب، ومن جانب آخر، يلحظ أن هذه الساعات المعتمدة جاءت في قوالب مختلفة، منها: حضور دورات تدريبية، وتقديم دورات تدريبية، ونشر بحوث في مجلات قانونية محكمة. وأخيرًا حصول المحامي على مؤهل دبلوم الدراسات العليا في القانون أو الماجستير في القانون أو مؤهل الدكتوراة في القانون. وهذا التنوُّع -يُحمد المُشرِّع عليه- في المقابل يؤخذ على المُشرِّع أنه وهو يقرر هذا التنوع، لم يشترط ما يضمنه. تفسير ذلك، أن المتدرب يحضر دورات تدريبية فقط، دون استيفاء المسارات الأخرى. ومن جانب آخر جاء البند رقم (4) فيما يتعلق بتخفيض عدد ساعات التدريب لمن حصلوا على مؤهل عال في القانون. ولم يبين المُشرِّع تاريخ الحصول عليه، ونميل إلى أن المُشرِّع قصد من هذا البند حصول المحامي على مؤهل عال بعد نفاذ القانون. وسندنا في ذلك، العبارة التي بدأها المُشرِّع "الحصول على مؤهل".

ونخلُص في هذه الجزئية إلى أن تبنِّي المُشرِّع برنامج التعليم المستمر وتنوع مساراته، جاء منسجمًا مع ما أكدت عليه الاستراتيجيات الوطنية ذات العلاقة ومنها، الاستراتيجية الوطنية للتعليم 2040. الإطار الوطني العُماني لمهارات المستقبل، والإطار الوطني للمؤهلات في سلطنة عُمان، وجميعها تساوي ما أكدت عليه رؤية "عُمان 2040" في مختلف توجهاتها، وخاصة فيما يتعلق بالتوجه الاستراتيجي (التعليم والتعلُّم والبحث العلمي) والتوجه الاستراتيجي المعني بالقيادة والإدارة الاقتصادية، والتوجه الاستراتيجي بشأن "التشريع والقضاء والرقابة" الذي يهدف إلى تحقيق منظومة تشريعية عدلية قضائية متطورة ومرنة توطّن أفضل الممارسات العالمية في مجال القضاء والتحكيم يستوعب القدرات الوطنية، ومنها المحامون.

ومن خلال -ما تم عرضه- من تنوع مسارات برنامج التعليم المستمر نتوقع أن يخرج المحامي -عند إنهائه البرنامج- بنتائج عديدة تعينه على التغلب في مختلف متغيرات الحياة، خاصة إذا ما علمنا أن مهنة المحاماة من أكثر المهن التي تتطلب مواكبة دائمة، وتحديثًا للمعرفة، وتحديدًا لمختلف المهارات، وخاصة التطبيقية منها. وعملًا بنص المادة (22) من قانون المحاماة والاستشارات القانونية يشترط فيمن يقيد اسمه في جدول المحامين أن يكون -كحد أدنى- حاصلا على درجة البكالوريوس أو ما يعادلها في القانون والتخصصات الأخرى من إحدى الجامعات أو الكليات أو المعاهد العليا المعترف بها في سلطنة عُمان؛ فيكون المحامي قد تشرّب وهو على مقاعد الدراسة العديد من المهارات، على اعتباره قد اجتاز مستويات الخامس والسادس والسابع والثامن. وفق الإطار الوطني للمؤهلات في سلطنة عُمان. وعليه يجب مراعاة هذا التسلسل والمهارات التي حصل عليها وهو على مقاعد الدراسة، بحيث يكون برنامج الدورات التدريبية يتجانس والمستوى التاسع من الإطار الوطني للمؤهلات مع عدم إغفال المستوى العاشر خاصة لمن عملوا في المهنة سنوات عديدة، ويمكننا إيجاز بعضها على النحو الآتي:

1- المعرفة: بحيث يظهر المحامي معرفة متقدمة وفق رؤى حديثة تتصدر مجال القانون والعلوم ذات العلاقة. وهذه المعرفة تظهر قدرة ووعيًا نقديًا بالمسائل والنظريات والقضايا، وليست وليدة صدفة محضة وإنما نتيجة لاكتشافات تجريبية قام بها المحامي.

2- مهارة التحليل والتطبيق: وتعني قدرة المحامي على تطبيق المفاهيم والمبادئ -ذات الصلة- في المسائل والقضايا الحديثة، كما تعني قدرة المحامي على القيام بتحليل النصوص، واستظهار فلسفة المُشرِّع فيها، وقدرته على تطبيق المعرفة والفهم في أوضاع مختلفة، ليكتشف بها مواطن القوة والضعف في النص.

3- مهارة التواصل: وتعني قدرة المحامي على اجتياز أفضل وأنجع الوسائل للتواصل مع مختلف شرائح المجتمع والجهات ذات العلاقة.

4- الاستقلالية والمسؤولية: وتعني أن يظهر المحامي في هذه المدة المحددة قدرته على العمل القانوني باستقلالية، وعلى تحمل نتائج هذه الاستقلالية.

5- التقييم: ويعني قدرة المحامي على تقييم النصوص واستظهار النقص فيها، وقدرته على تعداد النتائج والتوصيات التي يراها مناسبة لطرحها والأخذ بها عند تحديث القانون.

6- الإبداع والابتكار: وتعني قدرة المحامي على تقييم الأفكار وتفنيدها في أساليب غير نمطية للوصول لنتائج مُرضِية.

ونأمل من هذه البرامج التدريبية عدم إغفالها للمهارات الإدراكية التي تستوعب القراءة، والتعلم، والتذكر، والاستدلال المنطقي. ومتى ما تم هذا كله ستتناغم هذه المهارات العليا ومهارات الشعور والانتماء لمهنة المحاماة في سياق واحد.

ونشيد بالجهود المجيدة التي تقدمها وزارة العدل والشؤون القانونية في مجالات التدريب وتأهيل المحامين؛ ليقينها التام أن متغيرات الحياة تستلزم تغيير أنماط المهنة؛ بما يجعلها تستوعب جميع تلك المتغيرات، وإن كان لنا رأي فنستحسن ألا يقتصر برنامج التعليم المستمر على المجال القانوني؛ بل يتعدى نطاقه إلى المجالات والتخصصات ذات العلاقة كعلم الاجتماع، وعلم النفس والعلوم الحديثة كعلم التقانة والذكاء الاصطناعي.

وفي الختام.. نوجِّه الدعوة لجميع المحامين لحضور الدورات التدريبية والتأهيلية، كلٌ حسب مساراته، للنهوض بمهنة المحاماة وجعلها أحد مُستهدفات واقعات الحال.

 

*أستاذ القانون التجاري والبحري المشارك بقسم الحقوق في كلية الزهراء للبنات

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة