د. يوسف الشامسي **
مما يروى في بعض كتب السير عن قصة أصحاب الأخدود أن أهل نجران اجتمعوا على دين الغلام عبدالله بن الثامر بعدما آمن بدعوة الراهب فَيْمِيُون، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم عليه السلام، فلما علم ذلك ملك حمير ذو نواس زرعةً بن تبّان -وكان يهوديًّا- سار إليهم بجنوده من حمير إلى نجران، فدعاهم إلى اليهودية، وخيّرهم بين ذلك أو القتل، فاختاروا القتل، فَخَدَّ لهم الأخدود، فَحَرَّقَهم وقتّلهم ومثّلَ بهم حتى قتل منهم عشرين أَلْفًا أو يزيد.
أستذكر هذه الرواية ونحن نشهد إبادة أهلنا في غزة بعدما استحالت أزقتها أخاديد من حولها الركام، تتراءى خلالها مجازر الأطفال والنساء والمقعدين في صور من التنكيل لا تقل فظاعة عن إجرام ذي نواس، في حق قومٍ ما نقموا منهم إلا انتسابهم للبشريّة، وعقيدتهم المحمدّية. غير أن المفارقة البليغة بين قصة الأخدود وقصة الإبادة تتمثل في أن الأولى ثابتة أبد الدهر؛ أما الثانية فما تزال تتعرض للخنق والكتم والحرق في أخدود التعتيم الإعلامي والتواطؤ العالمي الذي يوغل جرح العزلة والتزييف فوق جرح الإبادة.
إن الهمّ الأكبر أمام ناقلي مشاهد الإبادة في غزة اليوم يتجاوز مخاوف القصف والاستهداف المباشر، فذلك همٌّ يشترك فيه الغزاويون جميعًا، إنما يكمن في قدرتهم للوصول إلى العالم الخارجي عبر شبكة الإنترنت. فقد دمّر الاحتلال -بشهادة الصحفيين أنفسهم- ما يقارب 90% من البنية التحتية للاتصالات في غزة التابعة لشبكة الاتصالات الفلسطينية. وما تبقى من أبراج ومقاسم يتعرض للقصف والتشويش على نحو مستمر، بل حتى المباني التي تحمل أجهزة الإرسال يهدمها قتلة الأطفال بما فيها ومن عليها. أما شمال القطاع فقد مُسح عن بكرة أبيه، فلا حجر بقي ولا بشر.
يؤكد صحفيّو غزة أن الصهاينة يتحكمون تحكمًا تامًا بالفضاء الرقمي في غزة منذ ما قبل الحرب إلى اليوم، وَلَإنْ أتاح المجرمون استخدام الشبكة نزرًا خلال الحرب فما ذاك إلا لأغراضهم التجسسية في المقام الأول. يخبرني أحد الزملاء الذين يستخدمون الشبكة المتبقية التابعة لشركة الاتصالات الفلسطينية أن الخدمة شبه معدومة، بالكاد يتمكن من رفع الرسائل الصوتية، ولتنزيل منشور أو مقطع فيديو عبر وسائل التواصل يضطر لاستخدام الشريحة الإلكترونية (eSIM) عبر الأقمار الصناعية وللتنقل أحيانا مسافة كيلومترات بسبب التشويش الصهيوني، باحثًا عن مكان مرتفع أو تلة تتيح له استقبال الإشارة. كثيرون -بحسب شهادة الصحفيين- استُهدفوا أكثر من مرة بسبب هذه التنقلات إلى مناطق الإرسال.
ومع ذلك يكافح الصحفي الفلسطيني، مدفوعًا بإيمانه وقناعته أن كل أمره لله، فلا يخشى مراقبة العدو ولا تهديداته. بل يكافح ليروي للعالم الحقيقة كما هيَ، مؤمنًا أن الصورة التي تخرج من بين الركام قد توقظ ضميرًا غافلًا في أقصى الأرض، أو تحرك مظاهرة في مدينة ما، أو تكسر جدارًا من جدران الرواية الصهيونية المسيطرة. ولعل أعظم ما يميز الصحفي الفلسطيني أنه يدرك تمامًا أنه قد يستشهد وهو يوثق مشهده الأخير، ومع ذلك يواصل عمله، ليبقى دمه وحكايته معًا كـ"شاهدٍ" أبدي على الجريمة، و"مشهودٍ" على سموّ الإرادة الروحية ورسوخ الإيمان.
لكن ماذا لو أن قنوات التواصل والإنترنت انقطعت عن الناس في غزة؟ أَوَسَيُلاقي الفلسطينيون أي تعاطف عالمي يدين جرائم الإبادة الصهيونية؟ وهل سينجح الإعلام الداعم لفلسطين في الصمود أمام السردية الصهيونية؟
قطعُ الإنترنت عن غزة تكرر عدة مرات ولفترات متقطعة خلال حرب الإبادة المستمرة، وهو بلا شك وسيلة متعمدة بيد الاحتلال لإخفاء جرائمه بين فترة وأخرى واحتكار السردية أمام الإعلام العالمي الخاضع لضغط اللوبيات الصهيونية، إذ يمنحه التعتيم وخنق الأصوات فرصة لارتكاب الإبادة في الخفاء، والخوف أن يتبع ذلك يتراجع في التعاطف العالمي للضحايا المدنيين من الأطفال والنساء، فالتعاطف العالمي غالبا ما توقظه الصور والشهادات المباشرة من "جنود الصحافة" المجهولين في ميدان الحرب؛ وإلا ظلّ في سبات. وما التقرير الذي نشرته "دي كلاسيفياد Declassified" البريطانية قبل يومين عن الصراع الدائر بين الصحفيين والإدارة في أروقة وكالة الأنباء العالمية "رويترز" حول تحيزّ تغطية الوكالة لصالح السردية الإسرائيلية إلا تأكيدٌ للحقيقة الصارخة عن تحيزّ كبريات وسائل الإعلام العالمية -منذ تأسيسها في الحقيقة إلى اليوم- للغرب ولمصالح قوى الاستعمار القديمة والجديدة.
رغم المخزون الهائل من الوثائق المرئية والوعي الشعبي المتنامي الذي منح القضية الفلسطينية تعاطفًا "طوفانيًا" عالميا ، إلّا أن غياب البث الحي لضحايا الإبادة ومعاناة المهجّرين قد يضعف ذلك الزخم ويمنح سدنة الإعلام الصهيوني فرصة لتزييف وعي الشعوب خصوصا في الغرب، ما يجعل بعاتق الإعلام الداعم لفلسطين عالميا مسؤولية مضاعفة لكسر الحصار الرقمي وبناء منصاته البديلة ودعم الصحفيين وصناع المحتوى في غزة بالشرائح الإلكترونية وما أمكن من وسائل اتصال، فجهاد الكلمة والصورة في هذه الحرب يوازي -إن لم يفُقْ- الجهاد بالياسين 105 وشواظ وعياش وهاون وسجيل. فهذه تفتك بالميركافا ومن عليها من شذاذ الآفاق، وتلك تعيد السيطرة على تدفق المعلومات وصياغة الحقيقة بأذهان الشعوب الحرة حول العالم.
وعودًا على ذي بدء، يروى في كتب السير أنه لما تغلّب أرياطٌ الحبشيّ على اليمن فرّ ملك حمير صاحب الأخدود هربا حتى اقتحم بفرسه البحر فألقى بنفسه وقضى نحبه غرقا. فلك أن تستقرئ عزيزي القارئ، ما أشبه مصارع الطغاة ببعضها عبر التاريخ! وما أقرب طوفان الأقصى من ابتلاع سفاكي الدماء مهما طال أملهم في البقاء.
** أكاديمي بقسم الإعلام الجماهيري في جامعة التقنية والعلوم التطبيقية بنزوى