الأدب.. من جبران إلى سعادت حسن منتو

 

 

 

محمد بن أنور البلوشي

ليس سرًّا اليوم أن الكُتّاب أكثر أهمية من كثير من المهن الأخرى؛ فلو لم يوجد الكُتّاب، لتحوّل العالم إلى قفص مظلم بلا نوافذ للحقيقة أو الخيال؛ إذ إنهم الذين يميزون بين النور والظلام، بين الصواب والخطأ، وبين ما يُرى وما يُخفى عمدًا. إنهم ضمير عصرهم، الأصوات التي تتحدى الصمت، والمرايا التي تعكس المجتمع لنفسه.

كثيرٌ من الناس، ممن يفتقرون إلى الشجاعة أو البوصلة، يلجؤون إلى الكُتّاب طلبًا للهداية؛ فالكتب بين أيديهم، ومن خلالها يكتشفون معنى الشجاعة، والاتجاه، والبوصلة الأخلاقية. الكُتّاب، بخلاف غيرهم، قادرون على تمزيق الأقنعة وكشف الطبقات العميقة للحقيقة. فلو لم يوجد الكُتّاب، كيف سيكون العالم؟

ربما كسَماء بلا نجوم؛ باهتة، جامدة، خانقة. إنهم نجوم الكون الفكري، وحين تكتب، أو حتى تفكر في الكتابة، فإنك تمنح الإنسانية مخرجًا من قسوة العالم وظلم المجتمع.

ومن بين كبار كاشفي الحقائق في الأدب، يبرُز الأديب سعادت حسن منتو مثالًا ساطعًا. وُلد عام 1912 في لاهور بالهند وقت الاحتلال البريطاني، ونشأ في زمن يضج بالاضطرابات السياسية. تميزت طفولته بالصراع والارتباك، ولم يكن متفوقًا في دراسته، لكنه وجد في القراءة ثم الكتابة ملاذًا. ما ميّزه لم يكن الموهبة الأدبية وحدها؛ بل شجاعته في مواجهة الحقائق التي أراد الآخرون إخفاءها.

بدأ منتو حياته مُترجِمًا لأعمال الأديب الفرنسي فيكتور هوجو، والمسرحي والشاعر البريطاني أوسكار وايلد، بجانب بعض الأدباء الروس إلى اللغة الأُردية، وهو ما صقل قلمه ووسع أفقه. ثم انتقل إلى كتابة القصص القصيرة، ليُثبت نفسه سريعًا ككاتب لا يخشى التطرق إلى المحرمات الاجتماعية.

كتب عن العاهرات، واللاجئين، والفقراء المنسيين، شخصيات نادرًا ما وجدت مكانًا في الأدب. بالنسبة له، الحقيقة كانت تعيش في الهوامش، لا في مراكز المجتمع المتأنقة.

قال ذات مرة: أنا أكتبُ ما أرى. جملة واحدة تحولت إلى فلسفة حياته. وأثناء تقسيم الهند عام 1947، حين شُرّد الملايين وسادت موجات العنف، كتب منتو أعظم قصصه وأكثرها قسوة: "ٹھنڈا گوشت" أي "اللحم البارد"، وكانت قصصًا تكشف بشاعة العنف الطائفي، ووحشية الإنسان، وعبثية كراهية البشر لبعضهم البعض. لقد تحوّل قلمه إلى سلاح، وكلماته إلى شهادة على معاناة الإنسان.

لكن صدقه كان ثمنه غاليًا. فقد وُجّهت إليه تهم الفُحش 6 مرات، في الهند الاستعمارية ثم في باكستان، لأنه تجرَّأ على وصف واقعٍ أراد الناس طمسه. لقد صَدَمت كتاباته الكثيرين حين تناولت الاستغلال الجنسي والنفاق الاجتماعي، لكنه لم يتراجع أبدًا. وردّ بعبارته الشهيرة: "إذا وجدتم قصصي قذرة؛ فالمجتمع الذي تعيشون فيه قذر". هذه الشجاعة جعلت منه كاتب الحقيقة، لكنها أيضًا جلبت عليه انتقادات قاسية.

لم تخلُ حياته من مآسٍ شخصية. فقد عاش صعوبات مالية قاسية، وصارع إدمان الكحول، وشعر بمرارة الغربة واليأس بعد انتقاله إلى باكستان عقب التقسيم.

ورغم شهرته، مات في فقر عام 1955 عن عمر يناهز 42 عامًا، تاركًا وراءه 22 مجموعة قصصية، وعددًا من المسرحيات والمقالات.

وعلى شاهد قبره كُتبت كلماته عن نفسه: هنا يرقد سعادت حسن منتو، مدفونًا معه أسرار فن القصة القصيرة. ومع ذلك، لم يكن أعظم كاتب في عصره، لكنه كان فريدًا.

إن صدقه الشجاع يضعه في مصافّ الخالدين في الأدب. فكما أن جبران خليل جبران أضاء العالم بكتابه "النبي"، أضاء منتو جنوب آسيا بجرأته في قول الحقيقة.

وقد كتب جبران ذات مرة: "الأشجار قصائد تكتبها الأرض على السماء، ونحن نقطعها لنحوّلها إلى ورق، نكتب عليه فراغنا". أما منتو، فقد ملأ الورق بالحقائق المزعجة، حتى لا يبقى المجتمع فارغ الضمير.

الكتابة ليست أمرًا هيّنًا؛ فهي ليست مجرد كلمات تُسطَّر على الورق؛ بل فنٌ يقوم على الملاحظة العميقة، والتأمل، والشجاعة. الكاتب لا يحتاج إلى عقل فحسب؛ بل إلى خيال وتعاطف ومسؤولية. إنه يفتح أمام القارئ أبوابًا لم يكن يعرف بوجودها.

والمجتمعات التي تفتقر إلى الكُتَّاب المُبدعين، مجتمعات فقيرة بالروح مهما غناها المال. لذلك، ينبغي أن تُناقش أعمال الكُتّاب مثل منتو وتُحتفى بها. وقد عبّرت الثقافة الشعبية عن ذلك في فيلم Freedom Writers؛ حيث شجَّعت معلّمة طلابها المُهمَّشين على الكتابة عن تجاربهم، فصارت الكتابة حبل نجاتهم، كما كانت لمنتو.

في النهاية، الكُتّاب ليسوا مجرد رواة قصص؛ بل شهود على التاريخ وحماة الحقيقة. وحياة منتو تثبت أن الكاتب حتى ولو في وجه الفقر والنقد والرفض قادر على تغيير الطريقة التي ترى بها الأجيال العالم.

فبلا كُتّاب، نحن عُميان، وبوجودهم نرى ما هو كائن، وما يمكن أن يكون.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة