الجلاد نفسه.. والضحية ذاتها!

 

 

محمد بن علي البادي

في سجل الوحشية البشرية، تبقى إبادة أعداد هائلة من السكان الأصليين في القارة الأمريكية وصمة عار لا تمحوها السنون، ولا تغسلها تبريرات "التمدّن" الزائف. لم يكونوا مجرد أرقام أُبيدت، بل أمماً كاملة اقتُلعت جذورها لأنها تمسكت بأرضها وواجهت الغزو بأدوات البقاء لا بأدوات الحرب.

تلك لم تكن حربًا عابرة؛ بل حفلة إبادة جماعية مُمنهجة، خُطّط لها بدم بارد، ونُفذت بكل أدوات الفتك: من السيف إلى الرصاصة، ومن التجويع إلى نشر الأوبئة، ومن الحرق إلى التهجير نحو جحيم المعسكرات. كانت جريمة ضد الوجود ذاته، لا تستهدف الأرض فقط، بل تمحو الذاكرة وتقتل الهوية وتدوس الكرامة الإنسانية.

وما يزيد الجريمة قبحًا أنَّ القاتل خرج من المذبحة متوشحًا بثوب "التحضّر"، ومتوجًا كبطل للحُرية، بينما طُمست معالم الضحية وقُزّمت مأساتها، وكأنَّها لم تكن شيئًا مذكورًا. لم تُحاكم هذه الجريمة، ولم تقف أمامها محكمة جنائية، ولم تُصدر الأمم المتحدة قرارًا واحدًا بالإدانة. لماذا؟ لأنَّ الضحية لم تكن بيضاء، ولأنَّ الجلاد كان المنتصر، ولأنَّ العالم- منذ قرون- لا يعرف العدالة إلّا إذا خدمته سياسيًا.

والمفارقة المريرة أن الذين ارتكبوا تلك الإبادة بالأمس، هم أنفسهم من يقودون اليوم حرب الإبادة ضد فلسطين. المأساة الأكبر أنَّ بعض الأنظمة العربية أصبحت شريكة في هذه الجريمة، بالتحريض على المُقاومة، وترويج سرديات الاحتلال، والمطالبة بنزع سلاح الفلسطينيين وكأنهم هم المعتدون!

في مشهد مخزٍ، صار صوت العدو مدعومًا من "أشقاء"، وأصبحت طعنة الظهر لا تقل قسوة عن القصف من الجو. الخيانة لم تعد سرًا؛ بل تحوّلت إلى موقف رسمي يُسوَّق على أنَّه "عقلانية" و"مصلحة وطنية". واليوم يعيد التاريخ نفسه، ولكن في أرض أخرى وبصوت عربي صريح: فلسطين تُباد، وغزة تُقصف بلا توقف، والدماء تملأ الشاشات، والأنقاض تفيض بالأشلاء، ومع ذلك... تُوجّه أصابع الاتهام إلى من يحمل السلاح، لا إلى من يُلقي القنابل. يُطلب من المقاومة أن تتخلى عن سلاحها كي "يتوقف القتال"، وكأنَّ الذي يقصف هو الضحية، وكأنَّ الذي يهدم البيوت ويقتل الأطفال يطلب فقط "السلام"! في ازدواجية معايير فاضحة، أصبح نزع سلاح المظلوم شرطًا للهدنة، بينما لم يُطلب من الاحتلال أن يتخلى عن طائراته أو دباباته أو فلسفة القتل التي تُحركه منذ عقود.

ما بين إبادة السكان الأصليين بالأمس وتدمير غزة اليوم، خيط واحد يربط المشهدين: الضحية بلا صوت، والجلاد بلا حساب. ومن ارتكب المجازر في الماضي ما زال يحرّض ويُسلّح ويُشرعن القتل في الحاضر، فقط لأنه يملك الكاميرا والميكروفون ومقعد "الفيتو".

فلا تعجب إن سُميت المقاومة إرهابًا، والاحتلال أمنًا مشروعًا... ولا تنتظر إنصافًا من عالم لا يرى الحق إلا إذا خرج من فمه.

وفي ختام القول، التاريخ لا ينسى، والضمير الإنساني لا يموت. الضحايا لم يُمحوا من الذاكرة، والجرائم لا تختفي بالوقت أو بالصمت. والحق لا يُمنح إلا لمن يطالب به، والعدالة لا تتحقق إلا لمن يرفع صوته دفاعًا عن كرامته. المقاومة حق، والاحتلال مسؤول عن جرائمه، والضمير الإنساني مُطالَب بأن يقف مع الحق، لا مع الكاميرا ولا مع مقعد "الفيتو"؛ فإما أن نرفع صوتنا مع الضحايا، أو نعيش تكرار المأساة، ونترك التاريخ يعيد نفسه بلا رحمة.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة