مستشفى نوكس التذكاري في مطرح: البداية الحقيقية للطب الحديث في عُمان

أنور الخنجري

alkhanjarianwar@gmail.com

قبل أكثر من قرن، لم يكن الطب الحديث معروفًا في عُمان، إذ كانت الأعشاب والدعاء الوسيلة الوحيدة لمواجهة الأمراض المتفشية في أرجاء البلاد. لم يكن هناك مستشفى بالمعنى المعروف، سوى طبيب تابع للقنصلية البريطانية في مسقط يتولى علاج الرعايا البريطانيين ومن يرتبط بهم.

 لكن عام 1909 مثّل نقطة تحول مفصلية، حين وصل الطبيب الأمريكي شارون جون طوماس (الأب) إلى مطرح، مكلفًا من قبل مجلس البعثات التبشيرية العربية في نيويورك بإنشاء أول صرح طبي حديث في السلطنة. كانت البداية في بيت مستأجر في مدينة مطرح القديمة يعرف بـ"بيت البرندة"، هناك سُطرت أول فصول الطب الحديث في عُمان ووضعت اللبنة الأولى لما عرف لاحقًا بـ "مستشفى نوكس التذكاري"، نسبة إلى الثري الأمريكي "تشارلز نوكس" الذي تبرع بتكاليف بنائه.

عمل الطبيب طوماس في عُمان حتى وفاته المفاجئة عام 1913، إثر حادث أثناء محاولته تمديد سلك تلغرافي يربط المستوصف النسائي في مسقط بالمستشفى في مطرح. شكّلت وفاته صدمة للبعثة التبشيرية ولأسرته وللمجتمع المحلي في مسقط ومطرح. خلف الطبيب طوماس في العمل زميله بول هاريسون، بينما تولى القس ديرك ديكسترا، أحد رموز البعثة التبشيرية في عُمان، الإشراف على بناء المستشفى الجديد معتمدا على خطط الطبيب شارون طوماس القديمة التي تعود لحقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى وكذلك على نصائح الطبيب بول هاريسون. استلهم القس ديكسترا تصميمه من مستشفى الكويت الحديث آنذاك، وكان أول مبنى من الخرسانة المسلحة في الخليج، وبذلك، قرر استخدام الخرسانة المسلحة رغم غياب الخبرة المحلية وارتفاع التكلفة مقارنة بالبناء التقليدي، إلا أن ديكسترا رأى أن متانة البناء بالخرسانة ستحقق استثمارًا طويل الأمد.

واجه ديكسترا تحديات كبيرة، حيث إنه لم يكن خبيرًا في الخرسانة المسلحة، فاضطر إلى تعلم تقنيات البناء بنفسه، وطلب قضبان التسليح وصنع القوالب بيده، وقاد أعمال البناء خطوة بخطوة بمساعدة عدد من البنائين والنجارين والعمال العمانيين. ومع غياب معدات خلط الإسمنت الحديثة، كانت الخرسانة تُصب يدويًا باستخدام سلال صغيرة، كما أن حرارة الجو كانت كفيلة بجعل الإسمنت يجف بسرعة، مما يمثل خطرًا على تماسك الخرسانة. ورغم ريبة العمال المحليين، الذين رأوا في الخرسانة خطرًا محتملًا، إلا أن المشروع الذي اشتمل على مبنى المستشفى ومقر سكن الطبيب قد أنجز بنجاح وافتتح المستشفى رسميًا في عام 1934.

ومن الطرائف التي تروى أن أحد النجارين غاب عن موقع العمل في يوم إزالة القوالب الخشبية، ولمّا سُئل، قال إنه كان يصلي في المسجد خوفًا من انهيار المبنى، لكنه ما إن رأى المبنى بعد إزالة القوالب، حتى صرخ مبهورًا بجماله.

رُوي أيضا أن الموقع المقترح بداية لبناء المستشفى الجديد كان بالقرب من "بيت البرندة" على ساحل حارة الشمال، وقد تم بالفعل الشروع في البناء إلا أن ذلك توقف لعدة أسباب جوهرية، منها صعوبة الحصول على المياه العذبة وضيق المساحة، وبذلك تقرر تغيير الموقع إلى ساحة بديلة أوسع وأقرب إلى مصادر المياه تقع خارج سور المدينة. أما الموقع القديم، فقد تحوّل لاحقًا إلى سوق شعبي للأسماك والخضراوات، عُرف محليًا بـ"الماركيت"، وظل قائمًا حتى بداية عصر النهضة المباركة عام 1970.

بعد وفاة والده، الطبيب شارون طوماس، عاد (الابن) الطبيب ويلز طوماس إلى عُمان عام 1939 ليكمل ما بدأه والده. شهد المستشفى في عهده نقلة نوعية، حيث تم إدخال أول جهاز أشعة إكس عام 1940، تبرعت به أسرة أمريكية من بوسطن. كما حصل المستشفى على أول مولّد كهربائي أتاح تركيب مكيف هواء في غرفة العمليات، مما حسّن ظروف إجراء الجراحات. وفي عام 1948، تم توسيع المستشفى ببناء جناح لعزل مرضى الجذام والأمراض المعدية، حمل اسم "مستشفى الطبيب شارون طوماس التذكاري للأمراض المعدية"، وجاء بدعم من التاجر البانياني "توبراني". لقد كان هذا المشروع من أهم إنجازات الطبيب ويلز طوماس، حيث كان يأمل منذ الطفولة أن يعمل شيئا جديرا لرعاية هؤلاء المرضى البؤساء المصابين بالجذام، الذين كان يراهم في صباه خارج بوابة مطرح بصحبة والده الطبيب شارون طوماس.

ومن إنجازاته الأخرى أيضًا تركيب طاحونة هوائية لاستخراج المياه الجوفية، ما مكّن المستشفى من الحصول على مياه عذبة دائمة، وبفضل ذلك أوصى بزراعة المساحات الفضاء داخل حرم المستشفى بأنواع مختلفة من الخضراوات والبرسيم، وقد أسهم ذلك في تحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي لتلبية بعض احتياجات المرضى ورِكابهم، خصوصًا أولئك القادمين من أماكن نائية.

لم يكن مستشفى نوكس التذكاري، الذي عرف شعبيًا باسم "مستشفى طوماس" -نسبة إلى طوماس الابن- مجرد مبنى، بل كان علامة فارقة في ذاكرة المدينة وتاريخ الرعاية الصحية في عُمان، وظل يقدم خدماته لكافة شرائح المجتمع حتى بعد عام 1972 حين انتقلت ملكيته إلى الحكومة، وأُعيدت تسميته إلى مستشفى الرحمة. وفي عام 1997، طُويت صفحة هذا الصرح، بعدما بيع وهُدم، ليُبنى مكانه مجمع تجاري، لتُطوى بذلك صفحة من صفحات التاريخ الطبي في عُمان. ورغم زوال المبنى، لا يزال منزل الطبيب طوماس قائمًا حتى اليوم في مطرح، شاهدًا على إرادة فردية عظيمة، وجهود بعثة طبية سبقت الدولة الحديثة، وأسهمت في ترسيخ أسس الرعاية الصحية في عُمان. ورغم أن المكان تغيّر والأدوار تبدّلت، فإن هذه القصة تبقى شهادة حيّة على إرادة البناء، والجهد، والتعلم الذاتي، وسط ظروف لم تكن سهلة مطلقًا.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة