الحاج مصبح الصحاري حاكماً للعراق (2)

 

 

د. سعيد بن سليمان العيسائي *

ومما ذَكَرَهُ معالي السيد محمد بن أحمد البوسعيدي المستشار الخاص لجلالة السلطان قابوس للشؤون الدينية والتاريخية رحمهما الله، موقفاً حصل له مع الرئيس صدام حسين؛ حيث وَجَّهَ له سُؤالاً صادماً حين قال لي: لو هاجمناكم، ماذا ستفعلون؟ فردَّ عليه مَعاليهِ قائلاً: سوف نستعين بالدول الصديقة لتُساعدنا. وَهَمَّ مَعاليه بقطع الزيارة والعودة فوراً إلى السلطنة، لولا تدخل بعض المسؤولين العِراقيين واعتذارهم عما حَدَثَ. ولعل هذه الحادثة وغيرها من الأمور قد أدت إلى فتور، أو خفوت في العلاقات بين عُمان والعراق، وربما بعض الدُّول العربية.

وفيما يتصل بالعلاقات القديمة بين عُمان والعراق نشير إلى النُّحاس الذي كان يُصَدّرُ من مَناجم صُحار إلى بلاد الرافدين، وقد أشرت إلى هذا الموضوع في مقالة: (صحار الواحة الخضراء وبندر الدنيا)، التي نُشِرَتْ في مجلة العربي الكويتية.

ومن الضروري الإشارة إلى حَملة العلم من البصرة إلى المغرب، الذين كان لهم الفضل في تأسيس المذهب الإباضي في هذه المدينة، التي كانت تعجُّ بالعلماء من أمثال الخليل بن أحمد الفراهيدي العُماني البصري، وسيبويه.

وإذا انتقلنا إلى تجربة الهند في التسامح والتعايش، فإني أشرت إلى هذه التجربة في مقالتي التي نشرتها في مجلة العربي الكويتية بعنوان: "دروس من الهند"، التي أشرت فيها إلى وجود آلاف من الديانات واللغات في هذا البلد، لكنَّ المصلحة العُليا للوطن تحتم عليهم ضرورة التعايش والتسامح، لولا بعض المنغصات تجاه المسلمين التي بدأنا نسمع عنها في الآونة الأخيرة.

وذكرتُ موقفاً أعجبني عندما كنت في زيارة بحيرة (نينيتال) السياحية التي يذوب فيها جليد جبال الهملايا. يوجد في هذه البحيرة السياحية دُور عبادة مختلفة للديانات الثلاث البوذية والمسيحية والإسلامية. سمعت الآذان يُرفعُ، وسمعت أجراس الكنيسة تُقرعُ، وأصوات المعبد الآخر تُنادي أتباعها. وبعد انتهاء الصلوات يخرج السكان إلى المقهى، يحتسون الشاي والقهوة، ويتبادلون أطراف الحديث. ونشير إلى فيلم "جودا أكبر" الذي يجسد هذا التسامح، حين تزوج إمبراطور الإمبراطورية المغولية "جلال الدين أكبر"، من الأميرة الراجبوتية الهندوسية "جودا باي"؛ حيث تحول هذا الزواج السياسي الذي تم في القرن السادس عشر ميلادي إلى قصة حب عميق بين الزوجين.

قُدَّرَ لي أن أعمل مُلحلقاً ثقافيًّا بسفارة سلطنة عمان في القاهرة، ولم أكن أحتاج إلى استخدام التاكسي، أو سيارات "الأوبر" لوجود سيارة خاصة للملحق، وعندما انتهت مُدة عملي في القاهرة، كنت أتردد على القاهرة مرة، أو مرتين كل عام، وَلَفَتَ انتباهي أنَّ بعض سائقي سيارات الأوبر من الشباب المسيحيين أنهم مشحونون تجاه إخوانهم المسلمين، ويعتقدون أنَّ بعض حقوقهم مهضومة، هذا الأمر آلمني، وَحزّ في نفسي، وبدأت في إقناعهم بسؤال: هل تعرضتم لأية مضايقة من زملائكم المسلمين في العمل؟ فكان ردهم: لا، بل على العكس من ذلك، يعاملوننا معاملة طيبة، ويشاركوننا مناسباتنا، ونحن نشاركهم مناسباتهم.

وأعود معهم إلى التاريخ؛ حيث أخبرهم بأن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم تزوج مارية القبطية، وأذكرهم بقصة ابن عمرو بن العاص مع القبطي، الذي اشتكى إلى سيدنا عمر بن الخطاب، فأمر القبطي بأن يضرب ابن عمرو بن العاص، وقال له: "اضرب ابن الأكرمين". وأخبرهم كذلك أنَّ ابنتي كانت "دسبينا " المسيحية أعز صديقاتها.

وأنا لا أزور القاهرة إلا وأزور الأستاذ أشرف حكيم المسيحي مدير فندق سفير الدقي، وحدثتهم كذلك عن أستاذنا وصديقنا المرحوم الدكتور سعيد مغاوري عميد كلية السياحة بجامعة المنوفية، الذي كَتَبَ كِتاباً عن "دير سانت كاترين" بسيناء، وأشار فيه إلى معلومات مُهمة مفيدة عرفتها لأول مرة من خلال كتاباته، وهو أنَّ بعض دُور العبادة المسيحية القديمة كان يُنفق عليها من قِبل المسلمين، أو من مَصارف وأوقاف إسلامية.

وأختم حديثي بحريق الكنيسة قبل عِدة سنوات، الذي حَدَثَ بسبب ماسٍ كهربائي، وقام مجموعة من المسلمين من جيران الكنيسة بإنقاذ جيرانهم من المسيحيين، وأصيبوا بحروق وكسور أثناء عملية الإنقاذ، وكنت أقوم بتهنئة عمداء الكليات من المسيحيين في مناسابتهم، ويبادلونني التهاني في المنسابات الإسلامية.

ويذكر بعض هؤلاء الشباب أنَّ هناك تفجيرات تتم في بعض الكنائس المصرية على مَدى السنوات الماضية، فأرد عليهم قائلاً: إنَّ الذي يفجر كنيسة هو الذي يفجر مسجداً، ويفجر معبداً آخر.

وأقول لهم: إنَّ المتطرفين موجودون في جميع الديانات والمذاهب، وأخبرهم بأنَّ هناك في الغرب من يريد أن يشعل الفتنة بين أبناء الشعب الواحد بحجة حماية المسيحيين أو الأقليات، أو غيرها من الدعاوى والشعارات الخلابة ليسهل عليهم التدخل في هذه الدُّول.

وأشير هنا إلى ما قاله الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى "بلينكن" الإنسان، عندما قال: أنا يهودي، فقال له: أنا نشأت في حي اليهود، ولم يتعرض اليهود في مصر، ولا في العالم العربي إلى أي أذى أو مُضايقات، وإذا كان الحال هكذا مع اليهود، فما بالك بالمسيحيين أو الأقباط.

وأحيل القارئ الكريم إلى كتاب "يهود مصر" الذي فَصَّلَ في تاريخ اليهود وحياتهم في مصر إلى هجرتهم في بقاع العالم.. وأود الإشارة إلى أنه يوجد حارة لليهود في القاهرة، وحارة أخرى لليهود في الأسكندرية.

أشرنا في مقال سابق في صحيفة "الرؤية" بعنوان "مهيار الديلمي يصدح في قصر عابدين" قبل عِدة أشهر إلى التحالف السني الشيعي ضد بريطانيا من خلال الزواج السياسي بين الأميرة الملكة: فوزية، أخت الملك: فاروق، وبين الأمير: محمد رضا بهلوي، الذي أصبح ملكاً لإيران.

وربما كان لبريطانيا دور في إفشال هذا التحالف. وهل يتكرر هذا التحالف بين السنة والشيعة من خلال ما نشاهده ونتابعه من وقوف الشيعة ممثلين في حزب الله، والحوثي، وبعض الحركات الإسلامية في العراق وسوريا ضد إسرائيل.

وهذا التحالف هو ما تخشاه الولايات المتحدة الأمريكية، والغرب، وإسرائيل، لأنه طالما سعت هذه الدول لبثِّ الفرقة والشقاق، وتأجيج الخلافات المذهبية بين المسلمين.

ونختم حديثنا عن التسامح والتعايش بتجربة "رواندا" الرائعة، التي تكاد تكون من التجارب النادرة في العالم. فقد استمرت حرب الإبادة والتطهير العرقي في (رواندا) لأكثر من 25 عاماً بين (الهوتو) والذين يشكلون 84%، و(التوتسي) الذين يشكلون 15%، والتي راح ضحيتها قُرابة مليون شخص، وتحولت (رواندا) في أقل من ربع قرن إلى واحدة من أكثر دُول أفريقيا استقراراً، وباتت أحد أهم النمور الاقتصادية الصاعدة.

ولقد شاهدت برنامجاً عنها في إحدى قنوات دبي الفضائية قبل عِدة سنوات، تبين من خلاله كيف أنَّ التسامح ونسيان الماضي، والنظر للمستقبل كان من أهم عوامل استقرارها وتقدمها وتطورها.

ونخلص في نهاية مقالنا إلى أنَّ التعايش والتسامح والقبول بالآخر، وتفعيل دُور المؤسسات، واحترام القانون، وإعلاء المصلحة العُليا للوطن، تُؤدي إلى الاستقرار، وبالتالي يساعد هذا كله على النمو، والتقدم والتطور والرخاء.

 

* كاتب وأكاديمي

تعليق عبر الفيس بوك