قُبلة يهوذا

 

 

الطليعة الشحرية

"دَقَّ الجنودُ الرومانُ المساميرَ في يديْه ورجليْه، ورفع عسكر الرومان الصَّليب، وقام جنديٌّ رومانيٌّ بطعنه في جنبه"، وهتفَ بنو إسرائيل: "اصلبهُ، اصلبهُ"، بينما كان يُحاكم أمام بيلاطس الحاكم الروماني، كما صَرَخوا مُطالبين بإطلاق سراح اللص باراباس بدلًا من اليسوع: "بِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ".

خَانَ يهُوذا مُعلِّمه وسلَّمه في مُقابل بضع جُنيهات، حِيْكَت المؤامرةُ وشَارَك الجميعُ بدءًا بروما وهيرودس وزعماء اليهود وبنو إسرائيل.  تآلف الفرقاء الذين لم يتَّفقوا على أمر أو شيء قبل هذا أو بعده، لكنَّهم تآمروا واتَّحدوا وقاموا بقتل ابن الرب.

يَعتبر المسيحيون أنَّ صلب المسيح أعظم عَدْل إلهي، وبعلم مُسبق من الربِّ، لتحقيق هدفٍ أسمَى كالانتصار على إبليس، وغفران الخطايا، ليعيش البشرُ في برٍّ بلا خطيئة. وتحقَّق ذلك بعد صَلْب اليسوع "لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (كورنثوس الثانية 5:21). لذلك، دم المسيح الذي سُفِك على الصليب، علينا نحن الذين أتينا إليه بالإيمان. فقد مَات لكي يدفع عنا جزاء خطايانا (رومية 5:8؛ 6: 23).

ولا يَزَال اليهودُ في انتظار دائم لظهور "المسيا المنتظر" (المسيح المنتظر)، الذي سيُخلِّصهم من العبودية بعد تشتُّتهم، ويُعيد إليهم مُلكَهم الدنيوي؛ وجاء "يسوع" عكس ما يأملون. جاءهم زاهدًا يدعو إلى تخليصهم روحيًّا وخلُقيًّا مِن شرورهم، فأنكروه واضطهدوه وتآمروا على قتله. فكيف للعالم المسيحي أنْ يَدْعَم أحفاد يهوذا الذي طبع قُبلة الغدر والخيانة القاتلة على وَجْنة اليسوع ليستدل بها الرومان عليه، أيدعم المسيحيون اليوم ويحتضنوا أحفادَ من خانوا وصلبوا ابن ربهم؟

 

لعنة العالم المسيحي

لعن العالمُ المسيحيُّ اليهودَ لأكثر من 1500 عام؛ فهم قتله ابن الرب المُخلِّص (حسب عقيدتهم). وتغيَّرت هذه النظرة المشؤومة مع بزوغ حركة الإصلاح داخل الديانة المسيحية، وتبعه انشقاق عقائدي من نتائجها احتضنت المسيحية البروتستانتية لليهودية. ظهرت التحولات في النظرة المسيحية لليهود في كتاب القس "مارتن لوثر" في العام 1523 بعنوان "المسيح وُلِدَ يهوديًّا"؛ حيث وضع فيه منظورًا مُغايرًا لليهود.

آمنتْ الكنيسة البروتستانتية بأنَّ قيام دولة "إسرائيل" مسألة دينية؛ باعتبارها تجسيدًا لنبوءات الكتاب المقدس، وتشكِّل المقدمة لمجيء المسيح المخلِّص إلى الأرض؛ وبالتالي رأت أنَّ من واجبها الدفاع عن اليهود، وعن حقِّهم بوطن قومي، مما أدى فيما بعد إلى بروز ما يُسمى بـ"المسيحية الصهيونية"، والتي أسهمت بتغيير النظرة الأوروبية (أو جزء منها) تجاه اليهود. وارتفعت بعض الأصوات المسيحية تُنادي بعودة اليهود إلى "أرض الميعاد".

 

أمريكا المسيحية الصهيونية

لقد أثَّرت المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة منذ نشأتها مع تدفُّق المهاجرين الأوائل الذين يعتنقون المذهب البروتستانتي. فاعتبر هؤلاء أنفسهم المضطهدين من فرعون الكنيسية الكاثوليكية، وأن أرض أمريكا هي بمثابة أرض الميعاد "أورشليم". وتتجلَّى هذه الصورة النمطية في مواعظ الأب "جون كوتون" بقوله: "إنَّ الرب حين خلقنا، ونفخ فينا روح الحياة، أعطانا أرض الميعاد الجديدة أمريكا، وما دمنا الآنَ في أرضٍ جديدة، فلا بُد من بدايةٍ جديدةٍ للحياة، نعمل فيها من أجل مَجْد بني إسرائيل، هذا الشعب المختار".

إذن؛ لم يكن الاعتقاد بضرورة العودة إلى أرض الميعاد حِكْرًا على بني إسرائيل وحدهم، بل ضربت جذور هذه الفكرة وتأصَّلت مُنذ بداية تكوين ونشأة الولايات المتحدة، وانتقلت الفكرة من المنظور الديني إلى المنظور السياسي، وقد دعا جون آدامز -وهو ثاني رئيس للولايات المتحدة الأمريكية- إلى قيام دولة يهودية بقوله: "أتمنى أن أرى أمة يهودية مستقلة في يهودا".

وتأصَّلت فكرة "أرض الميعاد" في الوجدان الأمريكي؛ فقد اعتبرت أمريكا أرض الميعاد للمُهمشين والمنبوذين ممن لفظتهم أوروبا. إنَّهم الفارون من زنزانات العبودية القسرية للنظام الإقطاعي الطبقي الفاسد، ولم ينسلخوا هؤلاء المهاجرون عن عُقد التضحية والخلاص فلا يتحقق البَرُّ إلا بترسيخ دين المصالح الصليبية الصهيونية؛ تمهيدًا لظهور المسيح المخلص. ومن هذا المنطلق، دعمت الولايات المتحدة الرموز المسيحية الصهيونية لتحقيق الوعد الإلهي؛ أمثال: وليام بلاكستون مؤلف كتاب "Jesus is coming" (اليسوع قادم)، وقد سبق هرتزل في طلب قيام دولة لليهود في فلسطين.

 

أورشليم الجديدة

وليام بلاكستون.. رجلُ أعمالٍ أمريكي، وقاضٍ ومؤلف، مسيحي الديانة، لكنه أنفق الملايين على التبشير وتزعَّم حملة لعودة اليهود إلى فلسطين تمهيدا لعودة المسيح. رَاجَ كتابة "اليسوع قادم" الذي نُشر في 1878م في الأوساط الشعبية البروتستانتية الأمريكية. وطوَّر بلاكستون الفكرة اليهودية الصهيونية وطعَّمَها بديباجة مسيحية تبشيرية، ونقلها إلى مستوى الممارسة السياسية.

هل كان بلاكستون المسيحي الوحيد في العالم من يُؤمن بضرورة "عودة أمة اليهود ليهودا"؟ بالطبع لا؛ فقد حرَّكت فكرة التبشير واستعادة أرض الميعاد كلَّ رحلات المستكشفين والرحالة والمستشرقين؛ أمثال: كولومبوس.

إذن؛ نحن أمام سرديتان لـ"أرض الميعاد": "أورشليم القديمة" أرض يهودا، وهي أحقية لليهود المشتتين والمنبوذين ممن ازدرتهم المسيحية لقرون، و"أورشليم الجديدة" وهي أمريكا باعتبارها حقًّا للمهمشين والمنبوذين البروتستانت، وفي كلا الحالتين هناك بشر مستوطنون في أرض الميعاد، ولكن ليس لهم حق الحياة أو البقاء، بل يجب تطهير الأرض لاستقبال المنبوذين.

وقد لَعبت الكنسية البروتستانتية دورًا محوريًّا في ثقافة وتراث وأخلاق الولايات المتحدة؛ وجاء نتاج هذا الهوس الديني تماهي المستوطنين البريطانيين البروتستانتّيين على الأرض الأمريكية بالكامل مع الإسرائيليين القدامى؛ حيث يَرَى هؤلاء أنفسهم أنهم "إسرائيل المسيحية"، ويصنِّفون بريطانيا التي خلَّفوها وراءهم بـ"أرض فرعون"، والمحيط الأطلسي الذي عَبَرُوه بـ"البحر الأحمر"، وأمريكا التي استقروا فيها بأرض الميعاد، ومهَّدت هذه الأفكار إلى إيجاد بيئة محفزة لصهينة المسيحية البروتستانتية.

 

إن تفسير اللوبي اليهودي، ومن ثم الانحياز الأمريكي لـ «إسرائيل»، يجد أساسه في الثقافة الأمريكية، والتي توصف بأنها ثقافة يهوــ مسيحية (Judeo Christian)، تقوم على التقاليد الأخلاقية، والدينية لليهودية، والمسيحية، أي "التراث اليهودي المسيحي".إن تفسير اللوبي اليهودي، ومن ثم الانحياز الأمريكي لـ «إسرائيل»، يجد أساسه في الثقافة الأمريكية، والتي توصف بأنها ثقافة يهوــ مسيحية (Judeo Christian)، تقوم على التقاليد الأخلاقية، والدينية لليهودية، والمسيحية، أي "التراث اليهودي المسيحي".ثقافة اليهو-مسيحيةإن تفسير اللوبي اليهودي، ومن ثم الانحياز الأمريكي لـ «إسرائيل»، يجد أساسه في الثقافة الأمريكية، والتي توصف بأنها ثقافة يهوــ مسيحية (Judeo Christian)، تقوم على التقاليد الأخلاقية، والدينية لليهودية، والمسيحية، أي "التراث اليهودي المسيحي".إن تفسير اللوبي اليهودي، ومن ثم الانحياز الأمريكي لـ «إسرائيل»، يجد أساسه في الثقافة الأمريكية، والتي توصف بأنها ثقافة يهوــ مسيحية (Judeo Christian)، تقوم على التقاليد الأخلاقية، والدينية لليهودية، والمسيحية، أي "التراث اليهودي المسيحي".إن تفسير اللوبي اليهودي، ومن ثم الانحياز الأمريكي لـ «إسرائيل»، يجد أساسه في الثقافة الأمريكية، والتي توصف بأنها ثقافة يهوــ مسيحية (Judeo Christian)، تقوم على التقاليد الأخلاقية، والدينية لليهودية، والمسيحية، أي "التراث اليهودي المسيحي".إن تفسير اللوبي اليهودي، ومن ثم الانحياز الأمريكي لـ «إسرائيل»، يجد أساسه في الثقافة الأمريكية، والتي توصف بأنها ثقافة يهوــ مسيحية (Judeo Christian)، تقوم على التقاليد الأخلاقية، والدينية لليهودية، والمسيحية، أي "التراث اليهودي المسيحي".

يُعطِي الكاتب أحمد الدباش في كتابة "فلسطين في العقل الأمريكي -1492 1948" توصيفًا أكثر شمولية للثقافة الأمريكية، فيعتبرها ثقافة يهو-مسيحية (Judeo Christian)، تقوم على التقاليد الأخلاقية، والدينية لليهودية، والمسيحية، أي "التراث اليهودي المسيحي"؛ الأمر الذي تُرجم، في النهاية، إلى معنى سياسي، هو توافق القيم الأمريكية والإسرائيلية.

يُفسِّر الإيمان العميق من الرؤساء الأمريكيين بالصهيونية، ونُلاحظ هذه الإيمان العميق في هيمنة الرموز التوراتية على الحياة الأمريكية من العملات والشعارات، وإصرار السياسيين الأمريكيين على حماية إسرائيل، فلديهم اعتقاد راسخ بأنَّ مجيء المسيح الثاني مرهون بقيام دولة إسرائيل، فإذا جاز لنا القول بأنَّ بريطانيا هي أم إسرائيل؛ فأمريكا حتمًا الأب.

 

أبو الصهيونية

تستندُ العلاقة الأمريكية-الصهيونية إلى تاريخ طويل ذي أبعاد سياسية وتاريخية دينية قبل وعد بِلفور المشؤوم، وقد شارك سياسيون أمريكيون من عهد الرئيس "ويلسن" في صياغة المسودة النهائية لوعد بلفور مع الحكومة البريطانية؛ وذلك تحت ذريعة استعادة الأرض المقدسة لأصحابها.. وهي الديباجة الدينية ذاتها "أورشليم أرض الميعاد".

انحازَتْ الولايات المتحدة بالكامل للكيان اللقيط بعد مُوافقتها على الانتداب البريطاني على فلسطين؛ إلى أنْ أعلن الرئيس هنري ترومان بعد تسلمه الرئاسة الأمريكية: "أن أمريكا ستقوم بعمل كلِّ ما بوسعها لمساعدة اليهود على إقامة "وطن" في فلسطين، ومن لا يوافق في الإدارة الأمريكية فعليه أن يستقيل".

تجلَّت سياسية الانحياز في مواقف السياسية الأمريكية منذ نشأتها إلى يومنا هذا، فدعم الولايات المتحدة غير المشرُوط للكيان المحتل بالأسلحة تارة، وبالضغط على المجتمع الدولي أو بالتهديد بقطع المساعدات تارة أخرى، كلُّ هذه الأساليب والسياسيات الملتوية لتأمين وحماية إسرائيل من الملاحقات القانونية الدولية، فهي دولة فوق القانون وضعت بشرعية الغاب القانونية.

 

العشاء الأخير

تُصوِّر لوحة العشاء الأخير للرسام ليوناردو دافنشي، آخر وجبة للمسيح مع تلاميذه قبل صلبه؛ سُمِّي هذا الحدث في العهد الجديد بـ"العشاء الرباني"، وتأسس من وحيه القربان المقدَّس. وقعت الحادثة المشؤومة في مدينة القدس، حين أخبر اليسوع تلاميذه أثناء العشاء بأنَّ أحدهم سيخونه وسيوشِي به لليهود. صُلب اليسوع ولعنت العقيدةُ المسيحيةُ اليهودَ بعد خيانة يهوذا لليسوع لأكثر من ألف عام، وترتَّب على هذه الجريمة البشعة تجريم ونبذ وتهميش للطائفة اليهودية في العالم المسيحي، إلى أنْ ظهرت حركةُ الإصلاح الديني المسيحي وبزوغ البروتستانتية، وضيَّقت الكنيسية الكاثوليكية على مُعتنقي المذهب؛ الأمر الذي شجع على الهجرات إلى أرض ميعادٍ جديدة. وحمل غالبية المهاجرين الأوروبيين إلى الأراضي الأمريكية العقيدة البروتستانتية الأصولية، التي بدورها شكَّلت الهُوية التاريخية والثقافية للمجتمع الأمريكي.

وبالعودة إلى المسار التاريخي الديني لظروف قتل اليسوع، وهُوية الخائن الذي طبع "قُبلة يهوذا" الشهيرة؛ فيسُوع قُتِل وصُلِب بعد تآمر مشترك من السلطة الدينية اليهودية والسلطة الرومانية. رغم أنَّ اليسوع لم يطالب بسلطة ولا مُلك، بل دعا إلى التطهير الأخلاقي والروحي والزهد في السلطة؛ الأمر الذي خيَّب أمل اليهود في استعادة مُلكهم ولم يُحقِّق نبوءاتهم؛ كما أزعجت "إنسانية اليسوع" الدولة الرومانية القائمة على البطش والدموية؛ فقد قلب اليسوع التراتبية البشرية وأدان العنف والفوقية والطبقية، ودعا إلى المساواة. تآمر يهود الأمس مع رومان الوثنية على صلب اليسوع، ليكفر ويغفر بموته بعد العشاء الرباني لمسيح اليوم آثامهم.

وفي يومنا، تآمر العالم المسيحي الصهيوني وأحفاد يهوذا الإسخريوطي، وطبعوا قُبلة الخيانة على وجنة الإنسانية؛ تمهيدا للظهور الثاني للمسيح المخلِّص، حتى يُعاد صلبه فتُغفر خطاياهم، ومن يحفل بعدد المقابر الجماعية والمجازر  في أرض اليسوع المقدسة اليوم، فموعد العشاء الأخير لم يَحِن بعد.