مدرين المكتومية
كلمات من ذهب وعبارات ذات دلالات بالغة العُمق وأوصاف دقيقة، هكذا يُمكن أن أصف حديث صاحب السُّمو السيِّد ذي يزن بن هيثم آل سعيد المُوقر وزير الثقافة والرياضة والشباب، الذي تفضّل برعاية كريمة لأعمال ملتقى "معًا نتقدَّم"، والذي استمر على مدار يومين، بمشاركة كوكبة من الشباب، وعدد من الوزراء والمسؤولين، وهو الملتقى الذي كان بمثابة منصة كبيرة للحوار المجتمعي حول العديد من القضايا، لا سيما تلك التي تهُم الشباب.
وقد حرصتُ على الاستماع لكل مداخلات صاحب السمو السيد ذي يزن، والتي شهدت حديث سموه حول مختلف الموضوعات، لكن حديث سموه عن الهُويَّة العُمانية والثوابت الوطنية، وأيضًا مسألة المواطنة، وكلها قضايا لها عميق الأثر في مسيرتنا الوطنية، خاصة إذا ما سلطنا الضوء عليها بالتحليل والشرح. فعندما يتحدث سموه عن مفهوم "المواطنة الصالحة" فنحن إذن أمام طرح نوعي مُتقدِّم لقضية المواطنة، وحقوق المواطنين في الدولة الوطنية بمفهومها الحديث المعاصر، وهذه المواطنة الصالحة "نصب أعين" صاحب السمو، وهذا يعني أن كل مواطن هو نصب أعين صاحب السمو، وما من تقدير أعظم من ذلك.
وترسيخًا لمفهوم الدولة الوطنية فقد أكد سموه أن "سلطنة عُمان مُتمسِّكة بعاداتها وتاريخها وثقافتها وتراثها"، وهذه العادات وذلك التراث الأصيل يمثلان ركائز أساسية للثوابت الوطنية؛ إذ إن هذه الثوابت تنبع من جذورنا الضاربة في أعماق التاريخ، فعُمان ليست دولة طارئة على الجغرافيا، ولا مُستحدثة؛ بل إنها دولة لأمة عريقة، كانت وما زالت مُنفتحة على العالم، وتحرص دائمًا على "مد يد العون والصداقة والسلم لما فيه مصلحة سلطنة عُمان"، وهذا ما أكد عليه صاحب السُّمو. هذه العراقة التاريخية التي نتحدث عنها يُقر بها العالم أجمع، فتاريخنا وحضارتنا وثقتها أمَّات الكتب والمراجع، وقد كتب عن عُمان جميع المؤرخين الذين مروا على أراضيها، ويكفينا فخرًا وشرفًا أن السيرة النبوية الشريفة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، تحتفي بأهل عُمان، وعلى لسان سيد الخلق عندما قال "لو أنَّ أهل عُمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك".
صاحب السمو السيد ذي يزن، طرح رؤية نوعية لمفهومي التراث والحداثة؛ إذ أكد أن التمسك بالتراث لم يمنع عُمان من الانفتاح على العالم، لكنه انفتاح يظل دائمًا مدروسًا ومحسوب الخطى والأهداف، ولذلك حذر سموه من التأثر "بالتغيُّرات في السلوكيات التي تحدث في بعض الدول"، وهنا نقطة نظام يجب أن نتوقف عندها ونُخبر بها شبابنا وفتياتنا المُفعمين بالحيوية والطاقة، ويسعون للانفتاح على العالم، أن يظلوا دائمًا واضعين نصب أعينهم أهمية تفادي السلوكيات غير المرغوبة، خاصة تلك التي تتعارض مع هويتنا وثقافتنا، فلا مانع من مواكبة المتغيرات والعصر، ولكن وفق ضوابط ترتكز على تراثنا وأصالتنا، دون إفراط أو تفريط.
الهُويَّة العُمانية ظلت حاضرة بقوة في حديث سمو السيد ذي يزن، لا سيما عندما تحدث عن أدوار وزارة الثقافة والرياضة والشباب؛ حيث أكد أن الوزارة "قطعت شوطًا كبيرًا في ترسيخ الهُويَّة العُمانية والتمسك بالعادات والتقاليد وتاريخنا العريق"، وهو حديث يُترجم تمامًا التأكيد الدائم لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- على أهمية الحفاظ على الهُويَّة والتمسك بالقيم الأصيلة التي تربى عليها العُماني على مر الحقب والعصور، بعيدًا عن المتغيرات وتأثيراتها علينا. وهنا نخص بالذكر أولياء الأمور والأهالي في كل ربوع عُماننا الحبيبة، أن يحرصوا كل الحرص على إيلاء مسألة الحفاظ على الهُويَّة والالتزام بقيمنا وعاداتنا أولوية كبيرة؛ كي تنشأ الأجيال الجديدة وهي على وعي كبير بمسألة الهُويَّة العُمانية الأصيلة.
ولذلك تابعنا أيضًا خلال ملتقى "معًا نتقدَّم"، الحديث الشيّق الهادئ والزاخر بالمضامين الفلسفية، لمعالي الدكتور عبدالله بن ناصر الحراصي وزير الإعلام، والذي أضاء من خلاله جوانب متعددة من مفهوم الهُويَّة وأصالة الأمة العُمانية. وكم كان عميقًا ما ذكره معالي الدكتور عندما قال "في سلطنة عُمان الأمة هي التي كوّنت الدولة وليس العكس"، وهو ما يُبرهن على أنَّ العُمانيين أمّة تمتد جذورها إلى بداية التواجد البشري على هذه الأرض الطيبة، ولذلك هذا التواجد العُماني على الأرض هو الذي أسَّسَ للدولة الوطنية بمفهومها الواسع، وليست الدولة هي التي أوجدت الشعب العُماني، وهذا يؤكد أننا "أُمّة عريقة" وأن "الثقافة والهُويَّة أصلان من أصول بناء الدولة"، وفق تصريح معاليه في الملتقى. وقد شدد معاليه على هذه النقطة عندما أكد أن "عُمان بلد عريق للغاية وليس ناشئًا بسبب التطورات الحديثة في الاقتصاد العالمي".
كل هذه المُعطيات تؤكد البُعد التاريخي والحضاري للأمة العُمانية، ولذلك كشف معالي الدكتور وزير الإعلام، خلال الملتقى، عن اعتزام الوزارة إطلاق مشروعين استراتيجيين للقوة الناعمة لسلطنة عُمان، وهنا يجب أن نتوقف كثيرًا عند هذا المفهوم العبقري الذي سلط معاليه الضوء عليه، لأنَّ قوتنا الناعمة أيضًا ليست وليدة اليوم ولا حتى الأمس؛ بل هي قوة ناعمة مُتجذِّرة، والشخصيات العُمانية التي رسخّت لهذه القوة الناعمة عبر التاريخ، مُتعددة.
وأخيرًا.. إنَّ الثوابت الوطنية ومفهوم الهُويَّة العُمانية والتمسك بالتراث والحرص على بناء أجيال جديدة مُتمسِّكة بهويتها وعراقة حضارة وطنها، أمور بالغة الأهمية يجب أن نتوقف عندها كثيرًا، ونطرحها في نقاشاتنا ونُقيم حولها الندوات والمُلتقيات والمؤتمرات، لأنها ليست بالقضية الهيّنة؛ بل هي محورية وحاسمة في تحديد وجهتنا ومُستقبلنا المزدهر بإذن الله تعالى.