أين أهل الشِعر من منابره؟

 

محفوظ بن راشد الشبلي

mahfood97739677@gmail.com

الشِعرُ ديوان العرب، عبر تاريخهم الطويل والممتد على مدى قرون من الزمان، وله مجالسه التي احتوته، ودواوينه التي دوّنته، ومنابره التي صَدحت فوقها حناجرهم، وحروفه التي خطّته أقلامهم؛ بل إن مجالس الشِعر عبر تاريخ العرب كان لها دور مُهم في تنشئة الفتيان منذ الصغر على صقل فن الفصاحة والإلقاء والتحدّث والخِطابة وقوة الشخصية لمواجهة الجَمع والحضور، وهو يتبع مدارس العِلم والتعلّم المختلفة والمتعددة إن لم يكن في طليعتها، والتي تخرّج منها شعراء العرب وعُلماؤهم المُبدعون والمُبتكرون والمُثقفون والمتفقّهون في شتّى علوم الحياة ومجالاتها العِلمية والأدبية الواسعة والمتعددة.

ويكفي دلالة على ذلك قول رسولنا الكريم صلوات اللّه وسلامه عليه عن رواية أُبي بن كعب في صحيح البخاري: "إن من البيانِ سحرا وإن من الشِعر حكمة"، ومعنى "حكمة" هنا الكلام النافع الذي يمنع من السفه، والحكمة هي القول الصادق المطابق للواقع.

وامتد إرث الشِعر والشعراء عبر تاريخ العرب الحديث وتواصل معه ذلك النهج ونشأت من خلاله أنواع ومقامات وتفرعات وبحور حديثة، ويكفينا فخرا كعُمانيين أن العالِم والنحوي الخليل بن أحمد الفراهيدي هو واضع علم العَروض في الشِعر وهو صاحب الخمسة عشر بحرا في الشعر الفصيح، وعبر امتداد التاريخ فإنه مرجع الباحثين في الشِعر يرجعون له وبالأخص لكتابه (العين) الذي ألّفه في القرن الثاني الهجري وعدد صفحاته 2500 صفحة ويُعتبر هو مصدر لجميع المعاجم العربية على الإطلاق.

أمّا في عصرنا الحديث ومع اتساع المفاهيم وتطورها وامتداد رقعة الشعراء في مجالات الشعر وتنوعه وخاصة الشعر الشعبي أو النبطي فإننا نجد للأسف بُعد أو بمعنى عزوف من قبل المهتمين بالشعر في حضور مدارسه وورشه وأمسياته، بل إن الداعمين للشعر والشعراء تجدهم قليلون ومساهماتهم خجولة إذا ما قورنت بباقي العلوم والبحوث الأخرى في الأدب بشتّى أنواعه، وتجد المهتمين بالشِعر يعزفون عن حضور أمسياته على أقل تقدير ودعمهم لزملائهم الشعراء في الأمسيات أو الورش الشعرية.

وما الورشة الشِعرية للشِعر النبطي التي أطلقها مجلس صحار الثقافي في نسختها الأولى من هذا الشهر في جامعة التقنية والعلوم التطبيقية في ولاية صحار والتي حاضر بها في بحور الشعر وتفعيلاته المحاضر والشاعر خليفة بن محمد الشبلي لهي أكبر دليل على عزوف المهتمين بالشِعر وفي تدارسه وكسب معارفه ومفاهيمه ومعانيه، وهُنا لا يقتصر الحضور والتسجيل في تلك الورشة للشعراء فقط؛ بل يشمل المهتمين والمتذوقين له لرفع مخزون ثقافتهم الشِعرية عن قرب والاطلاع على تجارب الآخرين في مجال الشِعر النبطي وبحوره وتفعيلاته، وإن فاتتك أُمسياته ووِرشه السابقة فحاول أيها المهتم بالشِعر والمتذوق له أن يكون لك حضور ومكان في قادم الوقت بين المهتمين به لتُبحر في عالمه الجميل والمُمتع ولتكتشف من خلاله عالم آخر مليء بالتشويق والجمال فالشِعر شعُور قبل أن يكون حروف مكتوبة وموزونة ومن حضر ليس كمن سمع.

خلاصة القول.. إن الشِعر يعدّه علماء الأدب والنحو على أنه تهذيب للنفس وللمنطق وفصاحة للحديث والخِطابة وهو يرفع من مقام وقَدر الفرد وعزّته ومكانته كما نشأ عليه سالف الشعراء وقد أصبحوا به حديث الناس وشِغلهم الشاغل منذُ العصور السالفة وإلى يومنا هذا؛ بل يُعد الشِعر ناهض للهِمم ومُحفّز للذات ومسطّر للأحداث وعنوان للمناسبات، وتُسجّل لنا كُتب التاريخ عبر الزمان بأن معركة (ذي قار) والتي دارت رحاها بين العرب الفرس كان للشِعر شرارتها التي أشعلت هِمم القبائل العربية المتفرقة حينها ووحّدت صفوفهم وجمعتهم على كلمة واحدة وفي صفٍ واحد للوقوف في وجه الفرس ورد طغيانهم وانتصارهم في تلك المعركة الطاحنة، فإن لم تتقن الشِعر وتجهل قيمته ووقعه في النفوس فكن من متذوقيه على أقل تقدير لتستشعر إحساسه وشعوره وقيمته وسَجعه وسَجِيته أيها العازف عن مجالسه والنائي بنفسك وفكرك عن منابره وأمسياته.

تعليق عبر الفيس بوك