تجليات الغثائية

 

د. عبدالله الغيلاني

للأزمات الكبرى جوانب مضيئة كما أن لها جوانب مُظلمة، ولها تعبيرات نافعة رغم حمولتها من العذابات والآلام، وليست محنة غزة بدعاً من ذلك. والمحن الكبرى في تاريخ الأمم لها وظيفتان: الكشف والإنشاء!

فهي، من جهة، تكشف مواطن الضعف وتُنبئ عن مواضع العجز وتضيء مساحات الوهن التي بقيت حينًا من الدهر مناطق مُعتمة، ولكنها- أي الأزمات- في الوقت ذاته تهدم واقعًا وتنشئ على أنقاضه واقعًا مغايرًا، ويتخلق ذلك الواقع الناشئ أولًا في العقل الجمعي حتى إذا بلغ أشده واستوى تحول إلى فعل على الأرض، ولا يزال يعلو حتى يغدو مشروعا مكتمل الشروط.

غزة اليوم، بصرخات أطفالها وأوجاع شيوخها وشموخ رجالها وصمود شبابها، تكشف لنا ثلاث حقائق:

  1. درجة متقدمة من الوعي السياسي والأصالة الوحدانية بلغتها الأمة في مجموعها.
  2. تفشي حركة النفاق وامتلاكها لأدوات التأثير.
  3. مستويات الغثائية السياسية؛ أي تلك التي بلغتها النظم السياسية الرسمية، وخاصة النظام العربي!!

حديثي في هذه المساحة عن الحقيقة الثالثة، وهي في ذاتها ليست جديدة، ولكن الجديد انكشاف دركات الانحدار التي بلغتها، فقد لامست القاع أو كادت. حتى على مستوى الخطاب السياسي بدت مترهلة واهنة، أما على مستوى الفعل والتأثير فقد هوت إلى قاع سحيق.

ليست هذه الغثائية وليدة البارحة؛ بل هي ضاربة الأطناب، عميقة الجذور، بعيدة الغور، فمنذ سقوط الخلافة الراشدة وسكوت الأمة عن ذلك التحول المريع من الحكم الرشيد إلى الملك العاض ثم الملك الجبري الذي تمثله الدولة الوطنية الراهنة، والغثائية تفتك بالمجتمعات المسلمة؛ إذ أدى ذلك الانقلاب على الحكم الراشد إلى تعطيل مقررات الشرع وإخراج الأمة من معادلة الحكم، والاستبداد بالأمر دونها والتحكم في مصيرها التاريخي.

نحن أمام حالة متجذرة من الخزي قلّ نظيرها في تاريخ المسلمين: شعب مسلم واقع تحت نيران تزداد كثافتها في كل ساعة وتحصد أعدادًا من أنفس بريئة، تستغيث ولا مغيث، وتستنجد ولا مجيب، ونستنصر ولا نصير!! وفي الطرف الآخر من المعادلة نظام عربي قد أصابه العطب وتفشت الغثائية في كل مفاصله، بل تجرد حتى من الحس الإنساني وأضحى بليدًا مقعدًا!!

ليت هؤلاء يعلمون أن إجلاء يهود بني قينقاع كان بسبب امرأة مسلمة اعتدوا عليها في سوقهم، وأن فتح مكة كان بسبب نفر من خزاعة اشتركت قريش في قتلهم غدرًا، وأن النبي-صلى الله عليه وآله- جرد جيشًا لحرب الروم ونصارى العرب في مؤتة لمّا قُتل رجل واحد من أصحابه (الحارث بن عمير الأزدي)!! ولكن أنىّ لهم أن يعلموا!!

هل من شيء يفعلونه إن هم عجزوا عن الفعل العسكري (وليسوا بعاجزين)؟

أدوات الحرب عديدة، وهم يمتلكون كثيرًا منها، ولكن مع الوهن والخور وغياب القصد، فإن تلك الأدوات لا تغني شيئا. حزمة من الخيارات الجيوستراتيجية يسعهم اللجوء إليها لوكانوا صادقين: دعم المقاومة، إدخال المعونات الغذائية والطبية إلى غزة قسرًا دون الالتفات إلى مواقف العدو، وتجميد العلاقة مع الولايات المتحدة أوالتهديد بذلك، وتجميد الشراكات التجارية مع داعمي إسرائيل.

لا يحسبن أحد أنه بمنأى عن تبعات هذه الغثائية، فما يجري لأهل غزة هو أنموذج للمُكن التاريخي؛ فالمعادلة واحدة وذات المقدمات تفرز ذات النتائج!

وما لم تغادر الأمة مرحلة الغثائية هذه فإنَّ سلسلة فواجعها لن تقف عند الحرب على غزة، واستذكر إن شئت سقوط بغداد أمام آلة التدمير المغولي وسقوط الأندلس-حاضرة الدنيا- أمام سنابك خيل الفرنجة، وردد إن شئت مرثية أبي البقاء الرندي:

لمثل هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ // إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ

تعليق عبر الفيس بوك