حديث الشعر وإيحاءاته (2)

 

سالم بن محمد بن أحمد العبري

 

أشرنا في الحلقة الماضية إلى قصيدة الشيخ عبدالله الخليلي- رحمه الله- (كؤوس الحب)، والتى أثارت شجوني واستحوذت على انتباهي واستحسنت سماعها، وموسى بن قسور العامري يترنم بها وأنكببت أنا على استخراج صورها البديعية والمقارنة مع قصائد وصور الشعراء الخالدين، وأثناء استغراقي مع القصيدة إذا بالشيخ محمد الخليلي يقول لي: قم وألقِ قصيدتك: (حي جنين حي الزناد ا// حي الجهاد وحي الشبابا).

وإذ كنت مستغرقا في قصيدة كؤوس الحب دار بخلدي أن أؤجل قراءتها في ذلك المجلس إلى اللقاء القادم؛ لأني كنت مع ظهيرة ذلك اليوم أراجع مع المحررين بجريدة الرؤية الأخطاء الإملائية والتشكيل وظللت قرابة الساعة ونحن نحاول الضبط وتعديل ألفاظ القافية حتى لا تتكرر، وأن يكون اللفظ أنسب وأبلغ في رسالة الأبيات.

قمت إلى منصة الشعراء وقلت هذه الأبيات كتبتها ظهيرة الأول من ذى حجة 1444 هجرية أثناء الاقتحام الأول للمخيم في خلال أسبوعين وكانت منبعثة من ذلك الحدث الذي فجره اقتحام العدو لمخيم اللاجئين المشردين من مدنهم وقراهم وأريافهم وصحاريهم ليحل محلهم الشتات اليهودي المستجلب من مختلف الأقطار والقارات بغيا وعدوانا وحيث إن إرادة الفلسطينين لم تنكسر رغم القوة الغاشمة التي استمرت واستئنست العرب وبعض الفلسطينين، ووقعت تحت تآمر الغرب المستعمر المتكبر السارق وسكوت البعض الآخر من العالم أو إسكاته بفتات مساعدات أو التآمر عليه.

ورغم ذلك كله ينهض الشباب الفلسطيني ليقول: كفى لن ننتظر إحسانكم وعدل المنظمات الممسوكة من العصابات الصهيونية وإن تسموا بالإمم المتحدة، فهب الشباب اليانع لينفض العثث والوهن العربي مقتديا برجالات المقاومة والتصدي الفلسطيني منذ وعد بلفور مرورا بمعركة الكرامة وحرب الاستنزاف والإقدام العربي في حرب أكتوبر التي قزَّمت بصغر غايات بعض المسؤولين والقادة لتحتل إسرائيل بيروت وتنفجر المقاومة الوطنية اللبنانية وعلى رأسها حزب الله وتتبعه غزة مؤمنة (أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة).

فتصدى لهم شباب أرادوا حياة الخلود كما وعدهم خالقهم وإذا بالقوة الغاشمة الإسرائيلية يصدها شباب موقن بالحق والنصر فردت على أعقابها.

إخوتي إن من يقرأ الآيات السبع الأولى من سورة الإسراء يرى وعد الله بالانتصار ظاهرا، ووعد الله قادم لم يحدد له موعد زمني مؤكدا وإن لم يحدد بفترة زمنية كما في سورة الروم، (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ).

اسمحوا لي أن أرجئ تقديم تلك الأبيات للقاء القادم بإذن الله لمزيد من التصحيح والتنقيح رغم أنها نشرت وقال بعض المتابعين إن ما يزيد على ثمانين ألف متصفح لها ما تشيره البيانات تحت الصورة.

واليوم وفي هذه الحلقة الثانية "حديث الشعر وإيحاءاته" استكمل الحديث عن تلك الأمسية الشعرية التي انعقدت في (2/ 7/ 2023) وما إن فرغت من حديثي في اللقاء إلا أن الشيخ محمد الخليلي يقول لأخي غصن (الشيخ غصن العبري) قم دورك، ثم بعد أبي محمد، قال الخليلي للأخ الدكتور علي بن هلال (تابع اللقاء بعد أخيك) فقلت إذا أتى الدكتور عبد الله بن مبارك العبري أو الأخ سليمان العبري أو الابن محمد بن سيف العبري أو أبو مازن فإن اللقاء اليوم لشعراء (عبرة بن زهران).

فقام أبومحمد وقال هذه قصيدة قديمة لم أحضر جديدا. فلما أنشدانا الأبيات الأولى قلت: (كيف لهذه القصيدة أن تكون قديمة)، وهي تعبر عن (حادثة إحراق نسخ من القرآن الكريم) أو (اقتحامات العدو الإسرائيلي المحتل لمخيم جنين)، قلت هذا هو الشعر الثابت الخالد الذي إن قُرأ بعد قرون تراه يعبر عن أحداث يومك الذى تعيش أحداثه، هاهي المعلقات الخالدة؛ لأنها وكأنها في حكمها تعبر عن رأي خالد وحكمة غير مسبوقة. رحم الله زهير بن أبي سلمى حين قال: (وَكَائن تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ // زِيَادَتُهُ أَونَقْصُهُ فِي التَّكَلُّم)، (لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ فَلَمْ يَبْقَ إَلا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ)، وألم تسمع بقول امريء القيس: (وَلَيلٍ كَمَوجِ البَحرِ أَرخى سُدولَهُ // عَلَيَّ بِأَنواعِ الهُمومِ لِيَبتَلي)، (فَقُلتُ لَهُ لَمّا تَمَطّى بِصُلبِهِ // وَأَردَفَ أَعجازاً وَناءَ بِكَلكَلِ)، أو يتردد في ذهنك (إذا الشعب يوما أراد الحياة // فلا بد ان يستجيب القدر)، أوقول الجواهريّ في منتصف القرن الماضي [(ما تشاءون فاصنعوا // لكم الحكم ملعب)، أو لم تسمعوا لشيخ البيان السالمي حين قال: (وذو الوجهين لا يصفو لخلق // ولا يُحسَنْ به ظن فيَبْرَا)، (ومن سلك الطريق بلا دليل // تخبّط هُوّةً واشتال شرَّا)، (زمام الأرض نشر العدل فيها // وقائد أهلها للخير دهرا)].

هنا تبدأ قصيدته الحديثة القديمة كما وصفها والمتجددة لأن حالنا خاصة وحال البشرية عتمة لم يتغير وكأنه شُدَّ إلى جبل ثابت يقاوم التبديل والتطوير فانشد: [(زماني خبرني أخاك الذي مضى // أكان نعيما عاشه الناس أم لظى)، (وهل أمة في الأرض سيمت كأمتي // فقالت قضاء الله حل وأنقضى)].

هكذا بدأ أبو محمد الأبيات بحوار وسؤال للزمن هل يشبه اليوم الأمس وهل كان نعيما أم كان لظى كما قد نراه اليوم، ثم يرد السؤال للزمن هل مر بك يا (زمان) أمة كأمتي اليوم تسام على خسف فلا تتذمر، وكلما أصابها من هوان ونكسة واعتداء واحتلال وحروب وتشريد وبيع لأوطانها العزيزة الغنية المخلدة بدماء أجيالها المتعاقبة تتوارى عن إظهار تقاعسها واستكانتها وتفريطها وركونها إلى مقولة العبد المملوك (من يركب نقود به) فإذا أتى بعض بقية من شاهمة ورجولة وغيرة فكيف لك هذا الخمول، وهذه المذلة؟ فقالت: إنه قضاء الله وقدره وهل قضاء الله وقدره والعقيدة التي ختم بها وحي السماء تقول لكم ذلك؟ وتقول لكم ناموا على فراش المذلة؟! ألم تسمعوا قول سبط نبيكم (هيهات منا الذلة)، وكيف قدَّم دمه قربانا حتى لا يبايع من لا يستحق وأنتم أصبحتم لا تنكروا المنكر حتى في ضمائركم! أقضاء وقدر احتلال أوطانكم وتشريد ذراريكم، ألم يقل الله تعالى (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) ألم تسمعوا قول الله جل جلاله: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍۢ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ).

ثم ألم تقرأوا سورة التوبة ولم يمرّ على أذانكم قول الله تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).

واستمر الشاعر أبو محمد يناجي الزمن فقال: (وهل يرتجى نصر لمن حالها كذا // وكيف لها بالنصر؟ قل: أخ القضا)، (فقال عجبت أن أرى اليوم أمة // إلى حتفها تجري وفي حالة الرضا). واستمرت المحاورة تصف الداء وتحاول أن تتصور صور الإصلاح إن كانت تريد أو يراد لها أن تصلح ويصلح حالها وإن كان من يتقلدون آمرها يرضون ويرغبون الإصلاح، أم هم كما وصف الشاعر العربي السوري: (لا يلام الذئب في عدوانه // إن يك الراعي عدو الغنم)، (فاحبسي الشكو فلولاك لما // كان في الحكم عبيد الدرهم).

والقصيدة يمكن وصفها بمعلَّقة توصيف الداء والدواء، وقد لاتكفيني حلقة من مئات الكلمات لنحلل القصيدة ونوفيها حقها خصوصا أنَّها تعبير عن الحال والمآل.

ثم ينتقل الغصن إلى جواب هو أجابه وليس الزمن الذي يحاورهبعد أن تقطع قلبه وضميره على أمته التي رضيت كل هذه الصور من ألوان الاستعمار والحلول محلها لمن هب و دب فيقول: (وسارت تصلي في المساجد تبتغي // من الله الرجاء الذي فيها قد قضى)، (وتدعو على الكفار في كل منبر // بتشتيتهم أرضا بتمزيقهم شظى)، (وتسأله نصرا عظيما مؤزرا // به تسحق الأعداء به تكسب الرضى).

الشاعر حين يصف لنا بإنسياب غَيرته وشديد تألمه من الوضع المزري للأمة يقول هذه أمة فقدت إرادتها فهي لا تدعو وقت جهاد وحين يُسأل الله النصر وقد اشتد الوطيس وظهرت إبداعت وشجاعة الرجال وهم يقارعون الأعداء ويُكبرون (الله أكبر الله أكبر) ويتلون قوله تعالى: (وما النصر إلا من عند الله) فهو يشبهم هنا بأغنام لا حول لها ولاقوة لكن الحيوانات تقاوم ولو بالإفلات منه أما امتي اليوم فهي لاحول لها ولا قوة إلا أن تبدو وكأنها بدعائها سينزل الله جنوده كما في(بدر)؛ لكنها باستكانتها وذهابها للتفسير الخاطيء لمراد الله غاب عن بصيرتها (وما جعلناه إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم)، و(تقول له: يا رب افعل بهم كما // فعلت بعادٍ قالت: ذلك وانقضى).

هذا حال أمتنا التي يصورها لنا أبو محمد؛ حيث أبدع أيُّما إبداع في تصوير واقعها؛ علَّها تستيقظ من غفلتها وتنتفض من نومتها التي طالت. وكان استحضار هذه القصيدة بعيد معركتي جنين استحضارًا موفقًا فكأنه يقول: يا شباب المخيم ما صار بكم وبلاجئيكم المشردين منذ 75 عاما، لأن أمتنا هذا حالها وقد غُلَّت أيديها وركنت للدعة والسكون وتبدو بنضالها الأجوف وكأنها رهطٌ من (المساكين) الذين لاحول لهم ولا قوة.

تعليق عبر الفيس بوك